أمير بابكر عبدالله
فيليب بوسون أحد الذين أثرت حكاويهم كتاب "حكايات كانتربري السودانية" الصادر عن مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي والذي ترجمه بلغة رفيعة "محمد أحمد الخضر". وفيليب هذا جاء إلى السودان للمرة الأولى بصحبة والده وهو ابن عامين في العام 1920، ويروي بعض المشاهد العالقة بذاكرة الطفولة، ثم جاءه المرة الثانية في العام 1945 موظفاً إنجليزياً كامل الدسم تدرج في السلك الوظيفي حتى صار مديراً للحكم المحلي، وهذا الطريق الإداري الذي سلكه أتاح له زيارة كل أرجاء السودان ليكتب عنه بعين أخرى، ليست كعين طفل غر، فيها من السخرية مثلما فيها من التسجيل لوقائع عديدة.
يستهل حكاويه بقصة جاءت على لسان والده "قاي بوسون" الذي عمل في السودان لفترة طويلة، وصادق خلالها السيد عبد الرحمن المهدي وسانده إلى أن غادر عائداً الى المملكة المتحدة. وشاءت الأقدار أن يجيء السيد عبدالرحمن إلى لندن في العام 1937 لحضور احتفالات تتويج الملك، التقى بالسيد "قاي" الذي رافقه إلى أحد المسارح لمشاهدة المسرحية التي تعرض على خشبته. يقول قاي " وبهذه المناسبة تم حجز مقصورة خاصة لنا بالقرب من خشبة المسرح. كان السيد عبدالرحمن شخصية مهيبة وهو في زيه السوداني الفضفاض، وأثناء الاستراحة، وعندما بدأ الجمهور يصفق للممثلين أثناء بروز كل منهم منفرداً من وراء الستارة لتحية المشاهدين، وقف السيد عبدالرحمن ليعبر عن شكره للتصفيق معتقداً إنه مركز اجتذاب الجمهور، وقد أصبح كذلك بالفعل!"
اما عينه الأخرى فقد رأت في مدينة "طوكر" العواصف الترابية التي أثرت على حياة مفتش المركز الإنجليزي "جون دونالد" الذي دعاه لتناول طعام العشاء أثناء زيارته الميدانية للمدينة. وجد "فيليب" السفرة خالية من الطعام فاستغرب، لكن سرعان ما اكتشف الأمر عندما شرح له مضيفه الطريقة المحلية المتبعة بقوله "الطعام موجود في الدرج في نهاية التربيزة. خذ الطبق والشوكة والسكين من الدرج الذي أمامك، وأخدم نفسك من الدرج الأخير. ضع طبقك داخل درجك، وأقفل الدرج بعد كل لقمة وأخرى".
أثناء زيارته إلى مدينة الجنينة في أقصى الغرب أقام له السلطان حفل شاي، وكان السلطان يسكن منزلاً من عدة طوابق. لم يجد "فيليب" من حديث السلطان الذي كشف عن معرفة بالعالم الخارجي تدل على معرفته وسفره عن طريق البر والجو، لم يجد شيئاً يسجله سوى محاولته شرح ماهية (المصعد) للسلطان، ليقول "غير أنه لا شيء من هذه المعارف المتطورة قد هيأه لتلقي ما رويته له عن (المصاعد) مستخدماً اللغة العربية بأقصى ما أستطيع، وكيف أنه من خلال الضغط على ذر واحد ترفعك إلى الطابق التالي" ويواصل "كان علي أن أهدئ من حماسه بأن شرحت له أن عدم وجود كهرباء في الجنينة يجعل التفكير في تركيب (مصعد) بمنزله أمراً مستبعداً".
في مدينة بور صادف أن نزل هو وزوجه في نفس المنزل الذي سكنه والده قبل عشرين سنة، ضيفاً على مدير المديرية "جون لونغ"، كما صادف وجوده احتفال المدير بعدد من زعماء الشلك والدينكا والنوير وآخرين وتقديم أحزمة الشرف لهم. يقول فيليب "كان من بين هؤلاء صديق قديم لي هو الزعيم (ناياك كواك) من قبيلة النوير لاو، في تلك الأثناء كانت زوجتى تشاهد الحفل مع ماري لونغ "زوجة المدير" من خلال المشربية، وأخبرتني فيما بعد أن (ناياك) عندما خرج من المنزل وقف أمام المشربية دون اكتراث، وحل حزام الشرف، ثم خلع الجاكيته والبنطلون القصير اللذين كانا قد أعطيا له لحضور المناسبة، وعلقهما على كتفه، ثم واصل سيره بارتياح وهو عريان"!
يختم فيليب حكاويه الكثيرة بما بدأ به وهو السيد عبدالرحمن الذي لا ينقطع عن زيارته كلما كان متواجداً في الخرطوم، وفي آخر زياراته له يقول "كان قد دعاني لتناول الشاي معه، فأخذت زوجتى وطفلينا الصغيرين. وقف السيد عبدالرحمن في أعلى الدرج لتحيتنا بشخصه المهيب وجلبابه ولحيته الجميلة، وعندما اقتربنا منه فزعت كارول ذات الأربع سنوات وصرخت" ماما أنا لا أحب بابا نويل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق