أمير بابكر عبدالله
يحتل السودان موقعاً جغرافياً مميزاً على خارطة أفريقيا خاصة، قيض له أن يكون رابطاً بين شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، وأضافت له مساحته الشاسعة "قبل وبعد استقلال جنوب السودان" ميزة تفضيلية اخرى بأن تكون حدوده متاخمة لعدة دول شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً وهي في الوقت الراهن "مصر، ليبيا، تشاد، أفريقيا الوسطى، جنوب السودان، أثيوبيا وأريتريا، إضافة إلى تمتعه بساحل تتجاوز مسافته الـ 750 كيلو متر يطل على البحر الأحمر من الناحية الغربية.
لعب هذا الموقع، إلى جانب تمتع السودان بموارد طبيعية ضخمة، دورا مهما في أن يكون مصدرا ومعبراً ومقصدا تستفيد منه دول الجوار في كثير من النواحي التجارية والاقتصادية عموماً، حيث تمثل التجارة الحدودية والبينية عاملاً مهما في اقتصاديات تلك الدول، وكذلك يمثل سوقاً مهماً للعمالة الموسمية القادمة من تلك الدول خاصة في موسم الزراعة.
في مقابل ذلك، مثل الموقع الاستراتيجي للسودان، بحدوده المنفتحة على تلك الدول وطول تلك الحدود واتساعها إضافة لأوضاعه السياسية والأمنية غير المستقرة لعقود طويلة، حافزاً رئيسياً لجملة من النشاطات المرتبطة بالجريمة الدولية العابرة ومعبراً مهماً للمهاجرين من أفريقيا إلى أوروبا أو دول الخليج. كما مثل ملاذاً وملجأ آمناً لكثير من مواطني تلك الدول في أوقات الصراعات الداخلية المسلحة، حيث لجأت إليه أعداد كبيرة من مواطني دول الجوار في أوقات مختلفة وحتى الآن.
البيئة السياسية والاقتصادية
مثلت الأوضاع السياسية والاقتصادية للقارة الأفريقية في فترة ما بعد الاستعمار الكولينيالي بيئة مناسبة لبروز هذه الظواهر إلى السطح وتناميها من عام لآخر. فقد خلفت الدول الاستعمارية بؤراً لتفجر الصراعات داخل تلك الدول وبين حدود الدول المختلفة. إذ شهدت تلك الدول ولا تزال، وضمنها السودان، صراعات سياسية مسلحة داخلية وحدودية بين دولة وأخرى. وبالإضافة إلى طبيعة الأنظمة السياسية التي سادت فيها البزات العسكرية والأنظمة الشمولية أكثر من الديمقراطية، والتي زادت من حدة الاستقطاب السياسي وعدم الاستقرار الأمني، كان للعامل الاقتصادي دوراً مهماً في تزايد أحجام هذه الظواهر الثلاث، مع خصوصية طبيعة العوامل الداخلية لكل ظاهرة منفردة. ففي ظل التراجع الاقتصادي وعدم الاهتمام بالتنمية المتوازنة والفساد المستشري في أوساط النخب السياسية والعسكرية وحالة الفقر المتنامي وسط المجتمعات، وكذلك التأثر المباشر بالكوارث الطبيعية مثل الجفاف والتصحر والفيضانات، كان لا بد للمجتمعات، خاصة الريفية والحدودية أن تكون المتأثر المباشر بهذه العوامل مما أدى لهجراتها.
السوق الرائج عالمياً للهجرة غير الشرعية وتجارة السلاح غير الشرعية والمخدرات، خلق مراكز دولية وإقليمية وشبكات داخلية مرتبطة ببعضها لضمان سلامة هذه التجارة واستمرارها يدفعها في ذلك الحرص على المداخيل العالية التي تحققها. واستخدمت هذه المراكز شخصيات مؤثرة ونافذة في العديد من الدول، مستغلة الهشاشة الأمنية وتعدد مراكز السلطة واتخاذ القرار وتشمل هذه الشخصيات نافذين في مواقع أمنية وسياسية مؤثرة قادرة على استخدام سلطاتها في التغطية على هذا النوع من التجارة دون ان يطرف لها جفن.
يتناول هذا المقال الثلاث ظواهر التي اتخذت من السودان أرضاً للعبور إلى بلدان أخرى كانت لها تداعياتها على الأمن القومي والاقتصادي والمجتمعي، وهي الهجرة والسلاح والمخدرات. إذ مثلت الهجرة عبر السودان الظاهرة الأكثر اهتماماً للمنظمات الدولية ودول الاتحاد الأوربي بعد تزايد وتيرتها وحجمها في العقدين الأخيرين، فيما ارتبط الاهتمام بالسلاح ونهريبه وتشديد الرقابة عليه دولياً ومحلياً بالصراعات المسلحة، خاصة أن تهريب السلاح يرتبط بالدول المنتجة للسلاح وتجارته، أما استخدام الأراضي السودانية كمعبر لتجارة المخدرات فهو يأتي في المرتبة الثالثة كظاهرة واسعة الانتشار تستهدف الدول الأفريقية.
مهاجرون عابرون
في التاريخ الحديث للسودان كانت الهجرة عبره إلى بلدان أخرى تمثل ظاهرة وتأتي في سياقاتها الطبيعية، فقد شهد السودان موجات عبور لهجرة شرعية من غرب أفريقيا إلى المملكة العربية السعودية بغرض أداء مناسك الحج والعمرة في العقود الماضية وازدادت بعد اكتشاف البترول. كما كان الساحل السوداني على البحر الأحمر منفذا لكثير من المهاجرين غير الشرعيين من إرتريا وأثيوبيا الذين تواجدوا في الأراضي السودانية إلى المملكة العربية السعودية واليمن. ولكن مثلت "عملية موسى" عام 1984 التي رحلت بموجبها آلاف الأثيوبيين من اليهود الفلاشا، إلى إسرائيل عبر الأراضي السودانية، عبورا منظماً بين الدول شاركت فيه أثيوبيا والسودان وإسرائيل.
بعد اتساع وتزايد الهجرة صنفت المنظمات الدولية المعنية بقضايا الهجرة الدول فيما يتصل بهذه الظاهرة، إلى ثلاثة مجموعات وهي دول المصدر، ودول المعبر ودول المقصد. وينتمي السودان الآن إلى كل هذه المجموعات، إذ يعتبر دولة مصدر للمهاجرين في العقدين الأخيرين بعد موجات الهجرة الكبيرة بين الشباب التي اتخذت كلا من مصر وليبيا معبراً للوصول إلى أوربا، وهو يصنف أيضاً كدولة مقصد لجذبه الكثير من العمال المهاجرين إلى جانب استقباله للمهاجرين غير القانونيين وطالبي اللجو، كما يعتبر السودان دولة معبر للمهاجرين بعد اتجاه الكثيرين منهم إلى الهجرة إلى بلدان أخرى سواء عن طريق التهريب أو عبر برنامج إعادة التوطين الذي تنظمه المفوضية السامية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، مما جعل السودان مركزاً رئيسياً لكل المنظمات الدولية لمعنية.
رصدت التقارير الأممية ارتفاع عدد المهاجرين وطالبي اللجوء الذين دخلوا السودان في السنوات الأخيرة، حيث تجاوزت أعدادهم الـ 800 ألف شخص من ذكور وإناث. ففي العام 2015 كشف تقرير صادر عن الأمم المتحدة أن عدد المهاجرين بلغ 503477 مهاجرا وتشمل المهاجرين النظاميين وغير النظاميين والعمال المهاجرين، فيما بلغ عدد اللاجئين 351450 لاجئاً. هذه الأعداد الكبيرة خلقت بيئة مناسبة لظواهر تهريب والإتجار بالبشر، والتي تجاوز حجمها عالمياً 150 مليار دولار بحسب صندوق النقد الدولي 2018، خاصة بعد التدهور الذي ضرب عصب الاقتصاد السوداني نتيجة لانفصال الجنوب والسياسات غير الرشيدة التي انتهجتها الدولة.
يتجه المهاجرون العابرون للسودان في مسارين لبلوغ البحر الأبيض المتوسط ومن ثم الشواطئ الأوربية، وهما مصر وليبيا. في وقت سابق كانت أعداد من المهاجرين، خاصة الأرتريين، تتجه إلى مصر وعبورها إلى إسرائيل، ولكن بعد الإجراءات المتشددة التي اتخذتها تل أبيب والأحوال الأمنية المضطربة في سينا المصرية، أصبح هدف المهاجرين بلوغ البحر المتوسط.
ارتفاع أعداد المهاجرين إلى أوربا، وحوادث الموت غرقا في عرض البحر وتنامي ظاهرة الإتجار بالبشر والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المصاحبة لها، لفت انتباه الاتحاد إلى أفريقيا باعتبارها مصدرا لهذه الظاهرة، خاصة بعد محاولاته لمعالجة ظاهرة الهجرة من آسيا باتفاقه مع تركيا بعد موجات تدفق اللاجئين السوريين إلى دوله نتيجة لتداعيات الأحداث هناك. ورغم المعالجات الأمنية ومحاولات تشديد ضبط حدود الدول الأوربية لمنع تسلل المهاجرين إليها إلا أنها لم تمنع تزايد تلك الأعداد مما اضظرها إلى وضع خطط بديلة لمعالجة الظاهرة من منبعها فأطلق ما عرف بـ "عملية الخرطوم" في خواتيم العام 2014، حيث أعلن وزير الخارجية الإيطالي من روما إنطلاق "عملية الخرطوم" المشتركة بين الاتحاد الأوربي ودول القرن الأفريقي لمكافحة أسباب وتداعيات الهجرة غير الشرعية، وذلك بعد اعتراف المسؤولين هناك بأن إغلاق الحدود ليس هو الحل وإنما الاتجاه لمواجهة المشكلات عبر الاتفاق مع الدول الأفريقية. وضمت "عملية الخرطوم" دول الاتحاد الأوربي ودول القرن الأفريقي إضافة إلى عدد آخر من الدول الأفريقية التي تصنف كدول معبر.
في 2015، عقد الاتحاد الأوربي والدول الأفريقية والمنظمات الدولية والإقليمية ووكالات الأمم المتحدة العاملة فى مجال الهجرة ومكافحة تهريب المهاجرين والاتجار فى البشر، قمة لمناقشة قضايا الهجرة في العاصمة المالطية "فاليتا". وخرجت القمة بخطة عمل شملت جملة اجراءات لوقف تدفق المهاجرين وخطة عمل مشتركة تتضمن مشروعات تنموية يتم تنفيذها فى أفريقيا، وإعلان سياسى يعكس التزام الدول المشاركة بتنفيذ تلك الخطة. وأعلن الاتحاد الأوروبى القمة عن إنشاء صندوق لمساعدة أفريقيا على مواجهة أزمة الهجرة، برأسمال قدره 1.8 مليار يورو.
وفي منتصف العام 2016 استضافت الخرطوم مؤتمراً إقليميا لمكافحة الهجرة غير الشرعية و تهريب البشر، شاركت فيه دول الاتحاد الأوربي والمنظمات الدولية المعنية. كما مول الاتحاد الأفريقي مجموعة من ورش العمل والسمنارات والتدريب في عدد من العواصم الأفريقية ذات الصلة.
وفي نوفمبر 2019، اعتمد الاتحاد الأفريقي العاصمة السودانية الخرطوم مركزاً قارياً لمكافحة الهجرة غير الشرعية، بإنشاء مكتب متخصص لمفوضية الاتحاد الإفريقي معني بمكافحة الهجرة غير الشرعية، وما يرتبط بها من أنشطة غير قانوينة عابرة للحدود، ومنها تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر.
وفي إطار محاولات السودان التقليل من تداعيات الظواهر السالبة للهجرة، أجاز البرلمان السوداني قانوناً لمكافحة الاتجار بالبشر في العام 2009، وعدله في العام 2014 مشدداً العقوبات فيه لتتراواح ما بين الإعدام والسجن من 5 أعوام إلى 20 عاما. وجرى تعديل آخر للقانون بواسطة مجلسي السيادة والوزراء في العام 2020 ليصبح أكثر تشدداً في مواجهة الظاهرة.
درب النمل
ارتبط انتشار السلاح وتداوله في البلدان الأفريقية بالاضطرابات السياسية والحروب الأهلية الداخلية والحروب الحدودية بين الدول التي برزت عقب توالي خروج الدول الاستعمارية من أفريقيا، وبدأت في السودان حتى قبل خروج الاستعمار البريطاني وإعلان الاستقلال بعام واحد، بعد تمرد حامية توريت الشهير في العام 1955. في ظل هذه الأوضاع المضطربة المستمرة حتى هذه اللحظة من السهل جداً الحصول على كل أنواع الأسلحة المتاحة فهي البيئة المناسبة والحاضنة الملائمة لتجارة الأسلحة وتهريبها عبر الدول.
بالنظر إلى الوضع العالمي لتجارة السلاح، والتي لا مناص لمنتجيه من ضرورة اشتعال الحروب والنزعات لتسويق منتجاتهم، نجده يتزايد عاماً بعد الآخر إذ ارتفع حجم تجارة السلاح العالمية بحسب تقارير معهد استوكهولم للسلام في العام 2019، إلى نحو 420 مليار دولار.
ويشير تقرير سابق للمعهد إلى زيادة واردات أفريقيا من السلاح بنسبة 45% في الفترة ما بين (2005-2009) و(2010-2014). وأن أكبر 3 دول مستوردة هي: الجزائر بنسبة (30%) والمغرب بنسبة (26%)، والسودان بنسبة (6%). وتحصل دول جنوب الصحراء على نسبة (42%) من واردات الدول الأفريقية؛ ويأتي السودان في المرتبة الأولى بنسبة (15%)، وأوغندا في المرتبة الثانية بنسبة (14%) من إجمالي الواردات الإقليمية.
عرفت تجارة وتهريب السلاح الغير شرعية العابرة للحدود بمصطلح "درب النمل" وهي تعنى بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة في مجملها التي تحتاجها الجماعات المسلحة في الدول التي تشهد نزاعات. وضع السودان الجغرافي وسط منطقة مشتعلة بالصراعات، التي لم يسلم منها هو نفسه، أهله ليكون معبراً لتجارة السلاح أو طريقاً لمد الأطراف المتصارعة بالسلاح. وإذا كانت الدول قادرة على رصد السلاح الذي بحوزتها وتعلم مصادره التي يمكن التحقق من شرعيتها، فإن السلاح غير المعروف مصدره وغير الشرعي الموجود داخل القارة الأفريقية يصعب تتبعه ومعرفة مصادره بشكل دقيق، فغنائم الحروب الأهلية نفشها تمثل مصدراً مهما من مصادر الحصول على السلاح.
وضع السودان الجغرافي باتساع مساحته وطول حدوده وعدم استقراره الأمني إضافة لكثرة الواجهات الأمنية التي لازمت طبيعة الأنظمة السياسية فيه، جعله معبراً مثالياً لتجارة السلاح. فغير الطرق التقليدية لعلمليات "درب النمل"، نجد أن الاتهامات طالت السودان كدولة بتهريب السلاح إلى عدة مناطق ساخنة، ففي أوقات كثيرة ظل السلاح يعبر الحدود السودانية تحت بصر الدولة وفقاً لطبيعة وعلاقة النظام الحاكم في الخرطوم مع الأنظمة السياسية حوله، فإبان الثورة الإرترية ضد الإمبراطورية الأثيوبية شهدت الحدود السودانية مع ارتريا عبور مختلف أنواع الأسلحة، وكذلك مع اثيوبيا وجنوب السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى. وامتد إلى فلسطين ومصر وليبيا. وتقف عمليات القصف الإسرائيلي عدة مرات لأهداف داخل السودان على عبور السلاح عبر السودان إلى حركة المقاومة الاسلامية "حماس" في غزة بفلسطين المحتلة، وكذلك الاتهامات التي طالته بتسهيل عبور الأسلحة إلى ليبيا التي لا تزال تشهد إضطرابات أمنية بعد الثورة، التي كانت تعتبر أكبر مخزن للسلاح في العالم إبان فترة حكم القذافي، مما أدى إلى مخاوف أممية بخروجه عن السيطرة وانتشاره في الدول الأفريقية المجاورة على رأسها السودان.
تسعى الدولة إلى التحكم في ظاهرة انتشار وتهريب السلاح غير الشرعي عبر المنافذ الحدودية لما يشكله ذلك من تهديدات للأمن القومي والتأثير السلبي على الأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. كما أن عبور السلاح من السودان إلى دول الجوار لا يمكن ضبطه إذ ينتشر بين الأفراد في الداخل مما يؤدي إلى تصاعد الجريمة المنظمة وعمليات النهب المسلح، ويسهم في تشجيع العمليات الإرهابية وتفشي الصراعات والعنف المسلح وتحول الصراعات القبلية إلى صراعات مسلحة. فمن فترة لأخرى تنشر الجهات الأمنية نجاحها في ضبط مجموعة من الأسلحة العابرة للحدود، وهذا يعني نجاح العاملين في هذه التجارة والمستفيدين منها مرات ومرات مما يشجعهم على الاستمرار.
الحد من هذه الظاهرة الخطيرة صادقت الأمم المتحدة في يونيو 2001علي برتوكول يمنع الصناعة والتجارة غير الشرعية للأسلحة النارية وقطع غيارها وذخيرتها. لكن هذا ليس بكافِ، إذ يتطلب بيئة مناسبة يخلقها الاستقرار السياسي في السودان ودول الجوار في المقام الأول، فضبط الحدود وسد المنافذ أمام تجارة السلاح وتهريبه يقوم على التعاون المشترك بين هذه الدول وتفعيل دور الأجهزة الأمنية والعسكرية للعمل المشترك من خلال اتفاقية إقليمية تمكنها من أداء مهامها والسيطرة على مصادر تمويل السلاح وتجفيفها وجمع المعلومات للكشف عن أموال تجارة وتهريب السلاح.
المخدرات طاعون العصر
تمثل تجارة المخدرات الضلع الثالث من مثلث الجريمة الدولية العابرة التي تقض مضاجع العالم، حيث يبلغ معدل تجارة المخدرات على مستوى العالم نحو 400 مليار دولار وبلغ عدد المتعاطين 275 مايون فيما توفي نتيجة التعاطي نحو 200 ألف حالة على مستوى العالم، بحسب آخر التقارير الصادرة في 2018. تجارة المخدرات وانتشارها كان محل اهتمام المنظمة الأممية التي بدأت منذ وقت مبكر بعد تكوينها في الإلتفات إلى الخطورة التي تمثلها، فبدأت الأمم المتحدة في عقد عدد من المؤتمرات توجت باتفاقيات بين الدول المنضوية تحت مظلتها منذ العام 1961، وخلصت في العام 1988 إلى اتفاقية "مكافحة الاتجار غيرالمشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية". وألزمت الاتفاقية الآطراف الموقعة على اتخاذ ما يلزم من تدابير لتجريم عدد من الأفعال المرتبطة بإنتاج المخدرات وتصنيعها واستخراجها وتحضيرها وعرضها وبيعها وتوزيعها وإرسالها واستيرادها، في إطار القوانين الداخلية لكل دولة.
على المستوى الأفريقي شهدت مناطق غرب ووسط وشمال إفريقيا، بحسب تقرير المخدرات العالمي 2019، أزمة المخدرات الاصطناعية، الترامادول. حيث قفزت مضبوطات الترامادول العالمية من أقل من 10 كجم في عام 2010 إلى ما يقرب من 9 أطنان في عام 2013 ووصلت لرقم قياسي بلغ 125 طنا في عام 2017.
في السودان الذي يربط موقعه كل هذه الأطراف، مثلت المخدرات وتجارتها هاجساً للسلطات القانونية وللمجتمع، وسعت الدولة إلى محاربتها بشتى السبل الممكنة. ويمثل السودان مصدرا لانتاج المخدرات الطبيعية التي تنتج في مناطق في دارفور والنيل الأزرق حيث ينتج ما يعرف بنبات القنب أو "البنقو". كما إنه مثل معبرا لذات المنتج الذي يزرع في مناطق واسعة بدولة أثيوبيا ويهرب إلى دول غرب وجنوب أفريقيا عبر الحدود السودانية. وفي ظاهرة حديثة بدأت في العقدين الأخيرين، اتخذ تجار المخدرات السودان معبراً لتهريب المخدرات المصنعة إلى دول الخليج ودول أفريقية أخرى ويأتي على رأسها حبوب الترامدول. وتشير التقارير الرسمية إلى تنامي هذه الظاهرة بصورة كبيرة واستخدام نافذين في الدولة لسلطاتهم للتغطية على أنشطة تهريب المخدرات التي صارت تضبط بكميات كبيرة، ففي العام 2018 ضبطت سلطات الجمارك نحو 10 ملايين حبة ترامدول وهي كمية كبيرة بكل المقاييس تكشف عن استخدام الأراضي السودانية كمعبر لدول أخرى. وفي أبريل 2019 ضبطت السلطات 17 طناً من الحشيش اللبناني وكميات من الحبوب المخدرة بالقرب من منطقة عطبرة شمال السودان والتي استخدم لدخولها سلطات التصنيع الحربي واتهام مسؤولين نافذين بتسهيل دخولها ضمن شحنة أسلحة، مما يشير إلى النية لتهريبها خارج البلاد. كما أحبطت السلطات الجمركية بمطار الخرطوم في مايو 2020 محاولة تهريب اكثر من 37 ألف حبة كبتاجون المخدرة كانت في طريقها للعبور إلى الداخل.
في إطار الجهود المبذولة لمكافحة ظاهرة انتشار وتجارة المخدرات في السودان، أنشئت اللجنة القومية لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بموجب قانون المخدرات والمؤثرات العقلية لسنة 1994، كما أنشيء "الصندوق القومي لمكافحة المخدرات والمؤثرا العقلية" بموجب ذات القانون الذي شدد في مادته 15 (1) على عقوبة لا تقل مدتها عن 10 سنوات لمرتكبي جريمة الاتجار في المخدرات والمؤثرات العقلية.
وفي هذا الإطار أيضاً تم تكوين فرع المخدرات والسموم بالجمارك السودانية في العام 2010، وتتعاون الجمارك السودانية مع نظيراتها في دول الإقليم ومع المنظمات الدولية المعنية من أجل محاصرة هذه الظاهرة المدمرة.
خاتمة
يمثل ثالوت الهجرة وتجارة السلاح والمخدرات بطريقة غير مشروعة هاجساً على مستوى العالم والإقليم والسودان، لما يخلقه من مشكلات على مستوى الأمن والسلم والتنمية على كافة هذه المستويات مما يتطلب تضافر كل الجهود الدولية العملياتية والمالية واستنفار الإمكانيات المشتركة للحد منها، حيث لن تتمكن دولة بمفردها من تحقيق الأهداف المرجوة. ومما ورد يظهر بوضوح مدى تنامي الظواهر الثلاث وازديادها من عام إلى آخر في ظل الأوضاع العالمية والإقليمية المضطربة والتي يتأثر بها السودان بموقعه الجغرافي الاستراتيجي بشكل مباشرة. وهذا يتطلب في المقام الأول السعي الجاد لإطفاء نيران الحروب الملتهبة في أجزاء القارة بما فيها السودان والدول المحيطة به، عبر برامج سياسية وتنموية تسهم في الاستقرار الاقتصادي ومحاصرة الفقر والفساد، وتفعيل البرتوكولات الدولية الموقعة لمحاربة الظواهر المشار إليها والتعاون الرأسي والبيني بين الدول المحيطة بالسودان وتطوير الأجهزة المختصة ورفع كفاءتها، وتشديد التشريعات القانونية لمواجهة هذه المخاطر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق