الطرق الجبلية محفوفة بالمخاطر في إلتواءاتها وإنحداراتها الحادة، صعوداً وهبوطاً، تزيد من خفقان القلب وثمة ما يقف في منتصف الحلق، ليست غصة، لكنه شيء ناعم لا يكاد يبرح مكانه حتى وإن أصاب الأذنين ما هو أشبه بصمم مؤقت بسبب العلو الشاهق. وفي محاولة لتجاهل الخوف ومداراة الإضطراب يكون التظاهر بالإستسلام لإغفاءة، بينما الصدر يموج بحالة غليان يخفف من وطأتها البسملة والحوقلة وآية الكرسي وبعض من يس إضافة لأوراد سرعان ما تتصاعد زفيراً حاراً عند بلوغ نهايات الصعود أو الهبوط. ويبلغ الصمت أوجه في لحظات الذروة كما في الأفلام أو الروايات المثيرة حين تقف الحياة على حافة (الأعصاب).
هكذا
قطع بنا اللوري الطريق المسافة بين أول العقبة وآخرها في الرحلة من بورتسودان إلى سنكات
حيث كنت أدرس في المرحلة الثانوية العامة ذلك الوقت. كان الطريق وقتها ترابياً، لم
تمتد إليه ألسنة الأسفلت بعد ساخرة من وعورة الأرض، ولا أنفجرت أصابع الديناميت لتهد
معابد آلهة الأولمب وتفتح نفَّاجاً تنزلق عبره المركبات في انسياب وسهولة ويسر. تلك
أولى رحلاتي البرية الحقيقية التي صادفت من الوقت مساءه، لنلج مفتتح العقبة في ظلمة
داكنة حيث الطريق لا يسمح سوى بمرور عربة واحدة فقط، ولا تمد رأسك خارج نطاق العربة
.. ستجد يمينك ظلمة الجبل الشاهق ويسارك حيث الهاوية الحادة تبتلع الظلمة داخل جوفها
لتصير ظلمة مضاعفة. حتى الضوء المنبعث من أمام العربة يبتلعه فضاء الظلمة الممتدة أمامها
ولا يكاد يبين إلا أثناء الإنعطافات ليراكم ذبذبات الخوف للحظات ثم يذوب في اللا شيء،
أما الضوء الأحمر المنبعث خلف العربة فلا أثر له في تاريخ أسطورة الخلق.
جاء
في الإصحاح الأول من سفر التكوين – العهد القديم "في البدء خلق الله السماوات
والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه.
وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور أنه أحسن. وفصل الله بين النور والظلمة.
ودعا الله النور نهاراً والظلمة دعاها ليلاً. وكان مساءٌ وكان صباحٌ يوماً واحداً."
وتتحدث
الأسطورة الإغريقية عن أسطورة الخليقة بعدة روايات لعل أشهرها روايات الشاعر الإغريقي
صاحب الألياذة والأوديسة (هوميروس)، وتقول إحداها إن (أورينوم) في الأصل خرجت عارية
وخلقت من الفضاء ولم تجد شيئاً ترتكز عليه بأقدامها ففصلت السماء عن البحر بعد أن كانا
متصلين، ثم اتجهت راقصة نحو الجنوب فتبعها ريح الشمال في حركتها، ولكنها تراجعت إليه
وقبضت عليه بيديها قبضة شديدة وفركته فخرج منه ثعبان عظيم هو (أوفيون) فصارت تراوده
عن نفسه برقصها وتمايلها حتى استجاب لها فحملت
منه، بعد ذلك تشكلت في صورة يمامة وباضت بعد استكمال مدة حملها البيضة الجامعة، ثم
أوحت إلى (أوفيون) الثعبان أن يدور حول هذه البيضة سبع مرات حتى فقست وانشقت إلى نصفين
خرج من بينهما كل شيء حي وهم أولادها: الشمس والقمر والنجوم والأرض بجبالها وأوديتها
وأنهارها واشجارها وأعشابها وكل ذي روح حي. فاتخذت (أورينوم) وزوجها (أوفيون) من جبل
الأولمب مقاماً لهما. ولما أغضبها زوجها (أوفيون)
بتبجحه وكثرة ادعائه بأنه أصل الكون رفسته إلى أسفل سافلين وسجنته هناك في كهف مظلم.
ما
بين التوتر وذروة القلق في حالتي الصعود أو الهبوط، تتنزل آلهة الأولمب، جاءتني هيرا
محلقة على جناحي طائر خرافي مثل خرافتها. كنت لحظتها أتساءل كيف لسائق اللوري أن يعلم
بخلو الطريق من عربة قادمة من الاتجاه المعاكس للعقبة، سؤال إشكالي لم أجرؤ على طرحه
وقتها لمرافقي في تلك الرحلة، ربما خجلاً من بروز خوفي على السطح أو محاولة أكثر لإبداء
التماسك، وحقيقة حتى الآن لا أعرف الإجابة فالطريق صار معبداً ويسمح بمرور أكثر من
عربة.
هبطت
هيرا من قمة الجبل، لترسل إلى حلماً بعثه بها الإله زيوس وتقول فيه " أسرح بخيالك
بعيداً عن الخوف والقلق وستقطع المسافة الأصعب دون مشقة". ولكن عقلي صفحة يلفها
ظلام من كل اتجاه ففيم أسرح بخيالي. وكأنها قرأت أفكاري لتنفض عنها ريش جناحيها الخرافيين
وتستحيل فاطمةً، تلك الفتاة التي لطالما حفزت خيالي ليبدأ رحلة الخلق .. خلق القصص
والروايات والساعي لخلق أسطورته الخاصة.
فاطمة
فتاة ندية، كما في الحكايات الشعبية انطبعت صورتها داخلي ولا تكاد تبرح مكانها، لا
زالت بخدِّيها النضرين تنزلق من كل واحد منهما ثلاث شلوخ دقيقة تضفي على ملامح وجهها
ضوءاً مميزاً، أو كما قال شاعر أغاني الحقيبة الكبير أبو صلاح:
هضليمة
وافر قادا .. وضواية الشلوخ وقَّاده
تِتنَّى
زي عقادا .. الفوق الردف رقاده
لم
أك في عمرٍ يأخذني العشق فيه بعيداً، ولم تراودني تلك الأحلام بعد. فلا سهاد ولا سهر
المنام (لي وحَّدي)، ولا يستوعب عقلي البض ما قاله أبو صلاح أيضاً:
كيف
المنام وعيونا يكونوا متفقين
وهنا
الشلوخ تتقادح والخدود رايقين
لكنها
بوجها الذي يحمل على خديها تلك الشلوخ وبملامحه التي لا تتجاوز (سبعتاشر سنة)، انطبعت
في ذاكرتي. لن أتخيلها ما حييت، وإن التقيتها الآن، بغير تلك الصورة، بورتريه محكم
الصنعة والإطار. وما جعلها حجر زاوية في بنياني النفسي والعقلي هو كونها (حكاءة) من
الدرجة الأولى، حكاويها تأخذ بالألباب والأنفاس خاصة تلك المحتشدة بالأحداث والقتال
والثورة، وهي التي ولدت من رحم الثورة الأرترية إبان حكم الأمبراطور هيلاسلاسي.
منذ
أن فارقتنا، إلى بيت زوجها، كثيراً ما ألتقيها بين ثنايا القصص والرويات ومراقي البطولات
والتضحيات. لكنها لم تحتويني كما كانت تفعل دائما وأنا صغير، وتأخذني خفية في بعض رحلاتها
حيث يجتمع نساء ورجال شباب وشابات لا تكاد تميز بينهم من كثافة الجدية التي تكسو وجوههم
وذلك الشعر الكث الذي يكسو رؤوسهم. لم تحتويني سوى تلك المرة التي إنتابني فيها الخوف
واللوري يقطع بنا المسافة بين أول العقبة وآخرها في رحلتي من بورتسودان إلى سنكات.
مرة أخرى هبطت على (كما هيرا) من قمة جبل الأولمب وابتسامة عريضة تملأ فمها الدقيق،
وأنا أقطع الطريق من مدينة كرن إلى أن تنفست الصعداء حين تجاوزت بنا العربة ال(لاندكروزر
بيك أب) عقبة نقفة وهي (تتوهط) ذلك الوادي الأخاذ وكأنه مسكون بالجن، تظل داخله محاطاً
بتلك السلسلة الجبلية ذات الإرتفاعات الشاهقة إلى مسافة تتجاوز الثلاثين كيلومتراً،
والعربة تسير ببطء من وعورة الطريق. ثلاثون كيلومتراً وقرابة الساعة من الدهشة التي
تمتص كل ذبذبات التوتر والقلق.
كنت
جالساً في تلك الأثناء بجوار صديقي شهيد الوطن عبدالعزيز النور - أحد آلهة الأولمب
- وله من الحكاوي الجبلية كاملة الدسم ما يصيبك بالتخمة، عندما هبطت فاطمة بابتسامتها
العريضة تلك واحتوتني بسنواتها ال(سبعتاشر) وهي تهمس في أذني بحلم زيوس "هل تصدقني
الآن؟ كل ما قصصته عليك عن الثورة والثوار والتضحيات الجسام التي قدمها أهلي تجدها
بين تلك الصخور وأنت تهبط وترتفع في تلك الهضبة".
صدقتها
الآن وأنا أرى حطام الآليات العسكرية المتناثرة على طول الطريق، وانفجرت ذاكرتي فيلماً
سينمائياً توثيقياً حين تربعت ذات مساء وجلست القرفصاء بجوارها. وانطلقت تحكي عن بطولة
أبناء الثورة وهم ينفذون كميناً ناجحاً لرتل من آليات الدرق المدرعة، وكيف أن فتاة
من بينهم قفزت إلى أعلى الدبابة وقذفت بقنبلة القرنيت اليدوية بعد أن نزعت فتيلتها،
لتوقف سير تلك القافلة عند مدخل الوادي. لم تحركها دوافع أغاممنون الراغب في تحرير
هيلين من طروادة، بل كانت هيلين هي الوطن بالنسبة لهم، هو ما جعل قلبها وقلوبهم وهم
يحتمون بسواتر جبلية ويصوبون نحو مؤخرة الرتل بعد أن ضربوا مقدمته، ليصير جسده محاصراً
داخل الوادي، وتتوالى الضربات ويرتفع غبار معركة غير متكافئة ليغطي عنان السماء.
أما عندما تحكي عن (الكراي) وهو الذئب، فكانت رعدة تسري في كل بدنها البض، إنها تخاف أيضاً من تلك الحيوانات الناعمة الشرسة. صدقتها عندما رأيت زعيم القطيع واقفاً في زهو رافعاً رأسه إلى أعلى ملوحاً بزيله، وشعرت بذات القشعريرة تسري في كل بدني. لكني تساءلت ما بال آلهة الأولمب تخشى الذئاب، ولا تخشى نيران مدافع الدرق؟
تلك مجرد عينة من حكاوي لا تقفز إلى سطح الذاكرة إلاَّ عندما يهبط الحجاب الحاجز مرتجاً أثناء هبوط أو صعود العربة إلى تلك المرتفعات الحادة المتعرجة، ويكون الخيال أكثر خصوبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق