أمير بابكر عبدالله
يقوم العقل القاهر على قاعدة متعددة الأركان والأعمدة، كما جاء في مقال سابق. وإذا كان من أبرز تجليات أزمته التناقض بين التطلعات والأفعال، فإن ذلك يظهر جلياً في الصراع الداخلي (داخل بنية العقل القاهر) بين تطلعه إلى قبول الآخر واحترام رؤيته وأفكاره وبين ذلك التراكم الضد الذي تكون عبر تاريخ طويل، والساعي إلى احتواء الآخر أو حصاره أو تدميره، أو التعامل معه تكتيكياً إلى حين التمكن منه. وتلك سمة ظلت تلازم حراكنا الفكري والسياسي والاجتماعي.
فما أن توضع تطلعاتنا الساعية إلى التقدم الفكري والسياسي، ورغباتنا في ترسيخ قواعد وقيم قبول الآخر، أمام اختبار حقيقي، بعيداً عن أحاديث المقاهي والصالونات وأشواق الندوات والمنتديات، إلاَّ ونشطت خلايا رفض الآخر ليبدأ تفاعلها في حالة أشبه بمقاومة كرويات الدم البيضاء لداء الملاريا والتي يتداعى نتيجة لها الجسد من السهر والحمى. وليس هذا بالأمر المستغرب بقراءتنا له في إطار التراكم التاريخي الذي شكَّل طرائق التفكير الفردي والجمعي، كما شكَّل توجهات النظم الاجتماعية المختلفة.
كيف تشكلت علاقتنا مع الآخر؟ بالتأكيد هذا تاريخ طويل يمكن تفكيك تفاصيله ليس بعجالة تخل به، ولكن بنيتنا النفسية والاجتماعية تشي بأهم ملامح هذه العلاقة، (ليس هناك غيري). إدعاء التفوق والتميز على الآخر إين كان موقعه، مني ومنك كأفراد، منا كمجموعات اجتماعية (قبلية، إقليمية، وغيرها)، ومنا كمجتمع في مقابل مجتمعات في دول أخرى.
كثيراً ما نقول بادعاء كبير، "نحن كسودانيين الأفضل"، نسمع مثل هذه العبارة في دول المهجر، أو أن كل قبيلة تدعي أنها الأكثر تميزاً بين القبائل، أو حتى على مستوى الأفراد. ربما يوجد مميزون وسطنا قد يدهشون العالم بقدراتهم، ولكن قطعاً يوجد آخرون في هذا العالم أكثر تميزاً.
حدث استوقفني في هذا الخصوص، الأول عندما فوجئت إحدى الباحثات السودانيات المشاركات في ورشة عمل حول الطاقة الذرية في إحدى المدن الأوربية نظمها مركز مهتم بهذا الأمر، وسبب المفاجأة أن أحد النافذين في هذا المعهد من أبناء جلدتنا. ومع مفاجأتها أصيبت بخيبة أمل كبيرة، فقد عادت بانطباع سيء عن خبراتنا وقدراتنا في الخارج. الآخرون، من مختلف البلدان، يوظفون وجودهم في مثل هذه المواقع لخدمة بلدانهم وإتاحة الفرصة لعدد كبير من أبناء وطنهم للإستفادة من برامج التدريب وحتى تمويل المشروعات الوطنية التي توفرها مثل هذه المراكز، يقف مثل هذا الخبير في زاوية الاستفادة من قدراته للحصول على امتيازات ذاتية مهما كان مقدارها، ويمكنه زيارة البلاد من فترة لأخرى تحفه مقدراته وخبراته ويكتفي بالجلوس في المنتديات الخاصة وربما العامة دون أن يستفيد منه العباد ولا البلاد شيء يذكر.
رغم أن ما سبق هو مثال عرضي ويبدو غير مباشر ولكنه يكشف كيف نفكر أثناء حراكنا الفردي، تسيطر علينا تلك الأنانية المتوارثة. إذاً إدعاء التميز المطلق والأنانية من مكونات بنيتنا النفسية والتي تؤثر في حراكنا على المستوى الاجتماعي والسياسي، وفي تشكيل علاقتنا مع الآخر. ولكن أليس مثال الخليفة عبدالله التعايشي، وهو الذي أرسل مهدداً التاج البريطاني بالدخول في الإسلام وإلا ...، يكفي لإثبات إدعائنا التفوق، وأن ما يحدث ليس من فراغ بل إفراز طبيعي لتراكم سلوكي وقيمي عبر التاريخ؟
هناك الكثير من النماذج التي تبين مدى أزمة العقل القاهر وهو يصارع في حلبة تشكل قيم جديدة تخلخل أساس بنيانه على المدى الطويل، مثل العلاقة مع الآخر. وإذا قلنا أن العقل القاهر يقف ضد الآخر نتيجة لتكوينه، فإن ما يتخلق من قيم ومفاهيم وسلوكيات على المستوى النظري، نتيجة لتأثرنا بما يجري في العالم من حولنا، تسعى للتعامل إيجاباً مع الآخر، ينتكس في بعض مستويات الاختبارات العملية. ورغم أن هذه الانتكاسة تأتي تحت ظل ضغط المقاومة الداخلية لمكونات ذاك العقل، إلاَّ أنها لن توقف التراكم الإيجابي للقيم الجديدة الإيجابية.
تمثل الممارسة العملية للديمقراطية واحدة من الأمثلة الأكثر سطوعاً في صراع العقل القاهر مع الآخر. على المستوى النظري نحن مع الممارسة الديمقراطية ونظام الحكم الديمقراطي ومؤسسات الحكم الديمقراطي، وهذا المستوى هو الفضاء الذي تتحرك داخله هذه القيم والمفاهيم والسلوكيات التي تتخلق والداعمة للتعامل إيجاباً مع الآخر، بكفالة كافة الحقوق المتفق عليها له.
ويمكن لهذا المستوى أن يمضي إلى أكثر من التنظير، ويتجاوز أحاديث الصالونات والمنتديات، إلى رحاب الممارسة العملية ولكن وفقاً لتعليمات غرفة التحكم في العقل القاهر. هناك حدود لا يجب تجاوزها أثناء الممارسة، على الآخر هنا أن يعرف حدوده، وإذا حاول أن يتجاوزها عمداً أو جهلاً هناك آليات ردع لتوقفه. وهذا ما يجعلنا نمارس الديمقراطية كما يلعب الأطفال (االبِلِّي) وأهم ما تتسم به هذه اللعبة هو (الخرخرة)، فعندما يدرك أحد اللاعبين أنه سيفقد اللعبة (يخرخر) ويعمل على عرقلة سيرها، وقد يستدعي الأمر (إنقلاباً) بأن يحتل موقع اللعبة، كمن يعلن مارشاً عسكرياً يذهب بعده الأطفال إلى منازلهم دون اكتمالها.
أو بأمثلة أكثر نضجاً من تصرفات (الطفولة)، لنلقي نظرة على ممارساتنا الحزبية والتي تكشف بوضوح مدى سيطرة العقل القاهر على مجريات الأمور فيما يتعلق بمسألتين، الأولى داخلية تخص الحزب، أي حزب عندنا، وهي عندما يقترب أحد ما من منصة القيادة دون ترتيب مسبق، أو دون مباركة الزعامات التاريخية، أو عندما تبدأ ململة بصوت مسموع وانتقادات للقيادة. تبدأ غرفة التحكم في إعداد الخطة لعرقلة هذه الخطوات، وإذا ما شعرت بالفشل تتغير أهداف الخطة لإحتواء الشخص ضمن منظومة العلاقات الشخصية الداخلية، وبالتالي تسويره بموجهات لا تخرج من قواعد اللعبة للمحافظة على ما هو قائم.
والثانية خارجية في علاقة حزب مع الآخر أو الآخرين، فهي علاقات لا تقوم على الندية وعلى احترام الآخر بقدر ما يمارس خلالها وبمختلف الصور والأشكال محاولات تفتيت وشل قدرات بعضهما، هذا في مستوى من مستويات تلك العلاقة. وفي مستوى آخر تقوم تحالفات تكتيكية قائمة على مصالح مؤقتة تجمع بين الأطراف لفترة مؤقتة، ولكن يظل خلالها العقل القاهر متحفزاً ومتحيناً الفرص لممارسة نزعاته في إضعاف وتدمير الآخر.
بل وقد يذهب العقل القاهر إلى أبعد من ذلك، حين يسيطر عليه اليأس فيتحول إلى (ديك عِدَّة)، أو يتعامل وفق مقولة (فيها والاَّ أطفيها) ليعود إلى مسرح لعب الصغار. نعم قد يذهب إلى الإنقلاب على كل شيء يمكن أن يذهب به ويأتي بالآخر، وبكل الوسائل الأخلاقية والغير أخلاقية.
التناقض الواضح بين تطلعاتنا النظرية لممارسة الديمقراطية، وفق قواعدها وقوانينها القائمة على الرضوخ لمؤسساتها على المستوى الداخلي، وإحترام الآخر والقبول به باعتباره واحد من أهم شروط الممارسة الديمقراطية نفسها، وبين حقيقة التشوهات التي تشوب ممارساتنا العملية لها، هو ما يفضح سيطرة العقل القاهر على مجريات اللعبة. لكنه في ذات الوقت يكشف عن أزمته والتي تتمثل هنا في مستقبل قيمه وتوجهاته التي تشكلت عبر تاريخ مليء بالأحداث، والتي بدأت أسسها تتخلخل.
عبر ذلك التناقض ستستمر الأشياء بطبيعتها، حيث يظل العقل القاهر يحاول التمترس داخل سياج قيمه وسلوكه في علاقته السلبية مع الآخر، ولكن تمضي سنة الحياة في خلق ما هو جديد يواصل الطرق على أسس ذلك السياج لتحل قيم جديدة وسلوك مختلف يقوم على التعاطي مع الآخر والتعاون معه وفق شروط الممارسة الديمقراطية، وهو ما لن يتأتى بسهولة ولا في وقت قصير، بل يحتاج أولاً لاستيعابه ومن ثم وضع البرنامج والمنهج لتحقيقه. فهل نحن مستعدون لإحداث ذلك التحول أم سيهزم رغبتنا المتحكم في العقل القاهر؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق