الصفحات

الجنس .. ردع أم تصالح مع الذات – من دفاتري القديمة

أمير بابكر عبدالله

ربما تناول هذا الموضوع العديد من الكتاب والاختصاصيين ولكنه يظل موضوعاً حيوياً يرتبط بتعقيدات قيمية ومركبات ثقافية نحاول الهرب جرياً من تحليلها وتعقبها، مستظلين بعباءات التابوهات التي نرتاح عند ظلالها وتعفينا عن كثير من وخذات الألم الداخلي. 

قدمت لي صديقة عزيزة استمارة استبيان جمع معلومات حول العنف الجنسي بين الزوجين تبناه مركز بحثي مهتم بقضايا المرأة. لم انتبه لإستمارة الاستبيان المعنية وأنفض عنها الغبار وأقرأ محتوياتها، إلاَّ بعد لقائي مؤخراً بشابة ثلاثينية على صلة وثيقة ببعض أطراف عائلتها، وهي عائلة محافظة جداً، بل موغلة في المحافظة. قابلتها هاشاً باشاً وهي استقبلت تلك الحرارة بروحها المرحة التي أعرفها عنها، وتجولنا في أحوال الأسرة وكيف اولادك، وفلان مات، والبركة فينا وفيكم في فلان. لكن هناك شيء ما اختفى فيها لم ألحظه في بداية اللقاء "تلك الابتسامة الدائمة التي لا تفارقها" صارت لا تلوح إلا في صعوبة.

الصورة الرسمية للأمم المتحدة لمناهضة العنف ضد المرأة

سألتها عن أحوالها الشخصية وإن كانت قد تزوجت؟ قالت بشيء من انكسار: ولن أستطيع الزواج. وبدون الخوض في مقدمات شعرت، من ملامح وجهها، أن لديها رغبة قوية في أن تقول شيئاً، وعندما وجدت استعدادي لسماعها بدأت حكايتها التي سأختصرها جداً. وهي بعد صغيرة في المرحلة الثانوية، كان ابن عمها يتسلل إلى فراشها خلسة أثناء الليل ، ويلجمها الخوف عن أي حركة توقظ أهلها. وصارت تكره الليل وابن عمها بلا تصريح علني، إلى أن جاء يوم وجد فرصته ليختلي بها ورغم مقاومتها الشديدة اغتصبها. ولكنها آثرت الصمت، إنه قانون العيب الذي يحكم حركتها. قررت عدم الاقتراب من الرجال ولا الزواج رغم رغبة وتقدم العديد من الأشخاص للزواج منها. كان حلها الوحيد أن يتزوجها ابن عمها ولكنه لم يبد أي رغبة في ذلك وتركها لمصيرها. ولأنها تعلم مصيرها فقد آثرت الصمت ودفنت داخله كل رغباتها الطبيعية، فهي إن تزوجت أو أرغمت على الزواج كما هي عادات أهلها فسوف يعيدها زوجها إلى أسرتها بعد اليوم الأول، ومن هنا ستبدأ المأساة التي تعرفها جيداً.

وأنا أقلب صفحات استمارة الاستبيان وجدت هناك بعض الأسئلة المطروحة على الرجل لم يهتم واضع الاستمارة بطرحها على المرأة، وأبرزها مرتبط  بصدد ما سأتناوله هنا وهما سؤالين وجدتهما في الاستمارة المعنية برأي الرجل وبحثت عن مقابلهما دون جدوى في الاستمارة المعنية برأي المرأة:

21. ما هو شكل علاقاتك (العاطفية والجنسية) بالنساء أو البنات قبل الزواج (صف ذلك)؟

22. ما هو رد فعلك إذا علمت أن زوجتك كان لها علاقة (عاطفية أو جنسية) قبل الزواج بك؟ وضح أسباب رد فعلك؟

يقول بول ريكور "تصبح اللغة ذاتها بمنزلة عملية تجعل التجربة الخاصة علنية"، وهاهي تجربة خاصة جداً تصبح علنية ليس فقط لأنها تحولت إلى رموز وإشارات وقيلت بصوت مسموع، ولكن لأنها صارت أقرب لنمط ثقافي اجتماعي مسكوت عنه من كثرة تكرار حدوثها. حتى ان مركز مختص بقضايا النوع لا يتجرأ لسؤال المرأة عن رأيها أو رد فعلها إذا علمت أن لزوجها علاقة عاطفية أو جنسية قبل الزواج بها، ولا تهتم لأسباب رد فعلها.

لا ألوم ذلك المركز كثيراً، برغم الدور التنويري المناط به، وهو يستسلم لقوى الردع الداخلية والتي تتضمن أنظمة قوية لضبط السلوك والمواقف الاجتماعية والتي تعمل كأزرع غير مرئية لقوانين البلاد المكتوبة وغير المكتوبة. فهو بعدم جرأته سؤال المرأة عن رأيها في قضية من صلب اهتماماته، يطلق العنان للرجل لممارسة علاقاته الجنسية والعاطفية قبل الزواج بحرية، بل وفي الواقع يحدث ذلك أحيانا بعد الزواج، دون أن يسبب ذلك قضية إجتماعية خطيرة مثلما يحدث عندما تفعلها المرأة. وكأن القضية طرفها فرد واحد لا إثنين.

وبرغم أدوات التدخل الاجتماعية الواضحة، مثل الأجهزة القضائية والعسكرية والشرطية تعتبر تطبيقات منظمة للردع والسيطرة الاجتماعية، وإنها ضرورية في أي ثقافة، كي تحافظ على الحدود المناسبة، وتحمي الحياة التي تجسد الثقافة وتقويها، إلا أنها ليست كافية لتعالج المشكلات الاجتماعية، وستظل مجرد أدوات تدخل يلجأ إليها للردع الخارجي للظاهرة أو المشكلة.

إن قوى وأجهزة الردع الداخلية أكثر خطورة، وتكمن خطورتها وقوتها في تكونها التراكمي التاريخي عبر تطور ثقافي واجتماعي طويل المدى، وكذلك في حدي سلاحها الإيجابي والسلبي، وهو ما جعل تلك الشابة الثلاثينية تلتزم الصمت بوقوفها مضطرة في الحد السلبي. ولنتخيل ذلك المنظر المغاير لو أنها وقفت في الحد الإيجابي بالمقاومة أو التصريح وهي بعد في السادسة عشر من عمرها أو تزيد قليلاً. إنه سيناريو مكون من عدة مشاهد بلغة السينمائيين:

المشهد الأول: أبلغت أمها بتحرش ابن عمها بها.

المشهد الثاني: أمها تتردد في إبلاغ الأب، وتحاول ان تغطي على المشكلة، وتقرر بينها وبين نفسها التضييق على ذلك الشاب خوفاً من الفضيحة.

المشهد الثالث: الشاب يعلم أن لا أحد يجرؤ على إبلاغ عمه فيتمادى في التحرش بالصبية.

المشهد الرابع: تضطر الأم لإبلاغ الأب.

المشهد الخامس: يصرخ أبوها في وجهها او أخوها الأكبر وأعتبر ما تقوله عيباً كبيراً، وربما ضربها. ويطرد إبن أخيه.

المشهد السادس: يقاطع الأهل بعضهم.

المشهد السابع: يعلم الجميع بما دار ويدور همس حول سلوك البنت.

المشهد الثامن: يتم التضييق على البنت وتصبح عار في جبين الأسرة.

كل هذا ويمارس ابن العم حياته الطبيعية، ويقبل كزوج من أية أسرة دون أن يشكل ماضيه حجر عثرة في طريق تفاعله الاجتماعي في ظل ثقافة تبيح له ذلك. أما بنت السابعة عشر ربيعاً فقررت الصمت وفقاً لقواعد اللعبة الاجتماعية وقررت دفن حياتها إلى الأبد.

وهو ما جعل استمارة استبيان المركز تبتلع سؤالها للزوجة عن رأيها ورد فعلها إذا ما علمت أن له علاقات (عاطفية أو جنسية) قبل الزواج بها. وكأنها تتوقع  رد الفعل هذا، أو كلنا نتوقعه، بل نكاد نجزم أنه لا يثير فيها إي رد فعل سلبي تجاه زوجها، وربما عدته إنجاز إذ حازت عليه هي في خاتمة المطاف.

إنها عقلية قائمة على بنى مؤسسات الردع الثقافي والاجتماعي السلبي، نختزنها في مؤخرة الرأس ولا تكاد تبرح مخيلتنا أثناء تفاعلنا الاجتماعي. ولكن هل يمكن تغييرها بحيث تكون مؤسسات قادرة على إنتاج خصائص المصالحة مع الذات، أي الردع الإيجابي؟

واهم خصائص المصالحة مع الذات هي القدرة على الإفصاح عما يدور في دواخلنا، أن نجعل هذه الصبية (وقتها) تتحدث، وأن يعرف إبن عمها إنها يمكن أن تبلغ أهلها بتحرشه بها. إنه الردع الإيجابي، فبدلاً من خوف البنت الفضيحة إن هي تجرأت وأبلغت اهلها وفق السيناريو الوارد الحدوث أعلاه، يخاف الشاب من سلوك هذا الطريق إلا إذا كان بموافقتها.

وتأتي التربية الخلاقة البعيدة عن التزمت والكبت والحرمان والخوف، القائمة على خلق العلاقات السوية، التي تقوي من بنية الشخصية المتوازنة، لتقف حاجزاً أمام الردع السلبي.

وكذلك رفع الوعي الديمقراطي سلوكا ومارسة على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع لفضح المسكوت عنه في كثير من القضايا الاجتماعية. إن المناخ الديمقراطي يبعث على الإطمئنان، ويحث على بحث الموضوعات التي لا تزال داخل دائرة الخطوط الحمراء.

إنها ليست مسئولية ذلك الشاب ولا تلك الفتاة، بل مسئولية تلك النظم الاجتماعية التي تستطيع المحافظة على نفسها بسيادة تلك القيم التي تجعل الرجل يمشي مرفوع الرأس طالما حافظ على قواعدها، وتجعل المرأة تسير مطأطئة رأسها خوف الفضيحة أو من جراء الفضيحة. مسئولية تكاملية بين مؤسساتنا التربوية والدينية والثقافية والمدنية ونظمنا السياسية والاقتصادية، التي يجب أن تعي دورها في خلق التغيير الإجتماعي بغرس مكونات الردع الإيجابي والتصالح مع الذات بدلاً من تكريس قوانين الردع السلبي في التعامل مع كثير من الظواهر الاجتماعية وهذه ليست سوى واحدة منها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق