نشر موقع "مداميك" خبراً تحت عنوان "المجتمع المدني بشرق السودان يحذر من صفقة "أبو عمامة" ويتعهد بالمقاومة"، بتاريخ 24 ديسمبر 2022. جاء في الخبر إن عدد من منظمات المجتمع المدني بشرق السودان، قالت إن التوقيع على عقد ميناء أبو عمامة، “من وراء إنسان الشرق بواسطة الحكومة الانقلابية الفاقدة للشرعية، مرفوض جملة وتفصيلا، وهو غير مبرئ للذمة”، وطالبت بالشفافية الكاملة وتمليك الشعب كل بنود اتفاق ميناء أبو عمامة وملحقاته ومدته الزمنية، والضالعين فيه من أجانب وسودانيين.
أكدت المنظمات المدنية والتجمعات الثورية والمهنية في بيان مشترك، أن هذه المشاريع تهدف إلى نهب الموارد وتندرج ضمن صراع نفوذ دولي على منطقة البحر الأحمر، يسعى إلى إخضاع السودان وسواحله للمصالح الخارجية. وأضافت (نحن نحرص أشد الحرص على استقلال وسيادة البلاد والنأي بها عن المحاور الإقليمية والدولية). وشددت المنظمات، على ضرورة التنمية الشاملة لكل ساحل البحر الأحمر من حلايب وحتى قرورة، مع التشديد على أن اي مواني تقام على الساحل تكون تحت سلطة هيئة المواني البحرية وسيادة السودان، وأعلنت أنها ستستخدم كل الوسائل السلمية المجربة والمستحدثة، والطرق القانونية لمقاومة ومنع إنشاء ميناء ابو عمامة أو أي مشروع آخر يغيّب إنسان الشرق.
جاء خبر "مداميك" بعد أكثر من أسبوع على توقيع اتفاق بين حكومة السودان التي مثلها وزير المالية جبريل إبراهيم وتحالف ضم "موانيء أبو ظبي" و"إنفيكتوس للاستثمار" التي يملكها أسامة داؤود.
المشروع في طبيعته الظاهرة إستثماري تبلغ قيمته 6 مليارات دولار أمريكي ويشمل بناء ميناء بحري ومنطقة تجارة حرة ومشروعاً زراعياً وطريق بري يربط الميناء بمنطقة المشروع الزراعي الواقع ضمن حدود محللية أبو حمد، إلى جانب وديعة بقيمة 300 مليون دولار لبنك السودان المركزي.
اعتراضات واسعة، ولأسباب متعددة، وسط المكونات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني والقوى السياسية والعاملين بموانئ البحر الأحمر صاحبت المشروع منذ انطلاق تسريبات عنه منذ حوكومة الفترة الانتقالية برئاسة د. عبد الله حمدوك التي انقلب عليها الجنرال عبد الفتاح البرهان فب 25 أكتوبر العام الماضي، ولكن كان النفي هو سيد الموقف حتى بعد الانقلاب إلى أصبح حقيقة واقعة قبل عشرة أيام بتوقيع الأطراف المعنية عليه.
الصراع حول البحر الأحمر
يعتبر البحر الأحمر أهم ممر مائي استراتيجي تجاري وعسكري لطبيعة موقعه من خريطة العالم، مما جعل الدول المشاطئة له تتأثر بالصراعات الإقليمية والدولية وتتفاعل معها شاءت أم أبت، والدول هي "مصر، السودان، إريتريا، جيبوتي والصومال من الجهة الغربية، واليمن، السعودية، الأردن وإسرائيل من الجهة الشرقية واللسان الشمالي للبحر.
تجارياً تظهر البيانات الاقتصادية أن البحر الأحمر يمثل معبراً لـ 13% من التجارة العالمية إذ تمر من خلاله سلع بقيمة 2.5 ترليون دولار سنوياً، بمعدل 200 سفينة يومياً، منها ما تحمل نحو 5 ملايين برميل نفط يومياً. كما يعتبر خطاً أساسياً في المشروع الاقتصادي التجاري الصيني المعروف بـ"مشروع طريق الحرير الجديد".
هذه الميزات الضخمة، إلى جانب ثروات معدنية كبيرة توجد داخله، جعلت منه أهم مناطق الصراع الدولي ومحاولات بسط النفوذ العسكري والسيطرة على مداخله ومخارجه سواء في إطار الحروب الباردة أو الساخنة نظراً لموقعه العسكري الاستراتيجي الذي يربط بين طرفي العلم شرقاً وغرباً.
أصبح البحر الأحمر من أكثر المناطق التي توجد بها قواعد عسكرية واستخباراتية من دول كثيرة في العالم والإقليم، فغير الدول المشاطئة له امتد نفوذ دول إقليمية ودولية عديدة إلى مياه البحر الأحمر وشواطئه. بل بعض الدول المشاطئة تجاوزت حدود مياهها الإقليمية لتنشر مراكزها الاستخبارية والعسكرية بطول البحر. ففي جيبوتي توجد قواعد عسكرية لعدة دول منها الولايات المتحدة الأمريكية والصين وتركيا وقبلهم كانت فرنسا صاحبة النفوذ الأكبر هناك. وتمددت الإمارات العربية المتحدة لتصبح من ملاك القواعد العسكرية في الصومال وفي ميناء عصب الذي دخلته تحت دعاوى تطوير الميناء ليتحول إلى ثكنة عسكرية إماراتية تخدم قواتها العسكرية في حرب اليمن.
أين موقع السودان من كل هذا؟
يمتلك السودان ساحل بطول 780 كيلومتر من الناحية الغربية للبحر الأحمر، وهذا الساحل بخلاف إنه يتوسط المسافة بين مضيق باب المندب في الجنوب وقناة السويس في الشمال فإنه يتمتع بالإنحناء فيما يشبه الهلال أو حدوة الحصان، إذ يمتد من الحدود مع أريتريا في الجنوب إلى منطقة حلايب وشلاتين المحتلة بواسطة مصر في الشمال. وبذلك يصبح الانطلاق من الساحل السوداني هو الأسرع وصولاً لجنوب أو شمال البحر الأحمر. وفي ذات الوقت يميز السودان وجود مطار عسكري شيده الإيطاليون على الحدود مع أريتريا قرب البحر الأحمر قبل أن يسيطر عليه الإنجليز في الحرب العالمية الثانية ويستطيعون شل قدرات الإيطاليين جوياً وهزيمتهم في أريتريا. هذا المطار هو الذي استغلته إسرائيل بالتعاون مع حكومة جعفر نميري لتهريب الفلاشا اليهود من أثيوبيا إلى إسرائيل، فكان محطة الوصول قبل نقلهم إلى منتجع "عروس" الذي كان يديره يهود بجنسيات مختلفة والواقع شمال مدينة بورتسودان بنحو 50 كيلو متراً.
هذا الوضع المميز للسودان جعله مصدر قلق للكيان الصهيوني، خاصة وأن الحكومات السودانية المتعاقبة ظلت في حالة قطيعة وعدوان مع إسرائيل قبل لقاء عنتبي بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس مجلس السيادة في السلطة الانتقالية عقب ثورة ديسمبر الفريق عبد الفتاح السياسي، والذي أثار جدلاً واسعاً بعد رفعت إسرائيل الغطاء عن سريته.
وجدت العديد من الدول ضالتها في دولة أريتريا التي رهن نظامها الحاكم نفسه لأجندات خارجية من أجل الحصول على عوائده من النقد الأجنبي بعد فشله في إدارة الدولة بعد نجاح ثورته على الحكم الأثيوبي ونيل الاستقلال.
فأصبح النظام الأريتري يعتمد بنسبة تفوق الـ50% من عائداته النقدية على إيجار الجزر التي تقع تحت سيادته، والتي تفوق الـ120 جزيرة في أرخبيل دهلك، كقواعد عسكرية ومراكز استخبارية ولوجستية للسلاح البحري من مدمرات وغواصات لدول أخرى.
اتجهت إسرائيل لإيجار قواعد عسكرية واستخباراتية لها في الجزر الأرترية في أرخبيل دهلك، وكان نصيبها ثلاث جزر "شومي، دهلول وديسي" التي تستخدمها منذ العام 2010، وتعتبر من أكبر القواعد العسكرية الإسرائيلية الخارجية. وهي القواعد التي انطلقت منها الطائرات العسكرية الإسرائيلية التي ضربت مصنع اليرموك في الخرطوم 2012.
دخلت الإمارات سوق التواجد العسكري في أريتريا، بعد تطور علاقتها مع إسرائيل، واستأجرت ميناء عصب تحت دعاوى تطويره والاستثمار فيه اقتصادياً، ولكنها حولته لقاعدة عسكرية ومركز اعتقال يخدم حربها ووجودها في اليمن. كما دعمت الإمارات مصر في استئجار قاعدتين أريتريتين هما جزيرة نورا وقاعدة ساوا العسكرية، وهي مركز تدريب الخدمة الوطنية والجيش الأريتري الأكبر في البلاد، إبان إرهاصات الجيش المصري بضرب سد النهضة الأثيوبي قبل أن تتغير المواقف السياسية بسبب الحرب الأثيوبية الداخلية وتورط أريتريا فيها.
وفي تناقض يكشف عقلية السوق لدى النظام الأريتري لمن يدفع، تستأجر إيران جزيرتي "فاطمة ونهقلة" لاستخدامها لوجستياً لدعم الحوثيين في اليمن.
بالنظر إلى الاتفاق السوداني الإماراتي بإنشاء ميناء "أبو عمامة" لا يمكن استبعاد رائحة إسرائيل واستخباراتها، خاصة إن أقرب الدول التي تهدد إسرائيل من البحر الأحمر هي السودان في ظل نظام معاد لها. وبالرجوع للوراء قليلاً كانت حدود السودان على ساحل البحر الأحمر تصل حتى مدينة شلاتين التي تبعد عن مدينة بورتسودان بـ 518 كيلومتراً. وبعد الاحتلال المصري لمثلث حلايب بسبب ضعف نظام الإنقاذ وسياساته، تراجعت هذه المسافة إلى حوالي 315 كليومتر "أقرب نقطة إدارية سودانية الآن تبعد عن مدينة حلايب المحتلة بحوالي 38 كيلومتر فيما تبعد حلايب عن بورتسودان بنحو 353 كيلومتراً.
دعمت إسرائيل الاحتلال المصري لحلايب لإبعاد أي خطر محتمل لعمل عسكري معادي لها انطلاقاً من السودان وكانت حلايب أقرب نقطة ممكن أن تؤثر على أمنها القومي.. ولعل أحداث مثل رسو السفينتين الإيرانيتين في ميناء بورتسودان بدعوى التزود بالوقود في عهد النظام البائد، ولكنهما في الحقيقة كانتا عبارة عن مدمرتين مزودتين بصواريخ بعيدة المدى تستطيع ضرب العمق الإسرائيلي إذا ما اتخذتا من أي ميناء شمال بورتسودان، خاصة ميناء أوسيف القريب من حلايب، نقطة ارتكاز. كما لم يأت ضرب إسرائيل لمصنع اليرموك، إنطلاقاً من قواعدها على الجزر الأريترية من فراغ، وإنما كانت تستهدف صواريخ "شهاب" الإيرانية التي كانت المخزنة في المصنع والتي يبلغ مداها من 1500 إلى 2000 كيلومتر.
وها هي الإمارات تريد أن تجد لها دوراً ما في هذه اللعبة إلى جانب مصر وإسرائيل، وربما بإيعاز من إسرائيل، فكان إختيار الموقع الجديد لإنشاء ميناء "أبو عمامة" الذي يبعد 200 كليو متر عن مدينة بورتسودان. ذلك يعني تقلص النفوذ السوداني على ساحل البحر الأحمر بحوالي 115 كيلومتر إضافي. مع العلم أن الميناء الجديد، بحسب تقرير للجزيرة نت، سيكون في موقع قاعدة للقوات البحرية "التي تقرر نقلها لمنطقة "شنعاب" على بعد 5 كيلومترات توطئة ليتحول المكان للاستثمار الإماراتي." كما يعني إمكانية تحوله إلى ثكنة عسكرية بحسب تجرب ميناء عصب في أريتريا، ولا يغرنك ما قيل عن الفوائد التي سيجنيها السودان من إنشاء الميناء، خاصة أن هناك موانئ عديدة كان يمكن تأهيلها بشروط تتفق واتجاهات التنمية التي يستفيد منها السودان وأهله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق