* هذه المقالة ملخص لبحث بعنوان "النظم الاجتماعية وتأثيرها على الخبر الصحفي"، سينشر كاملاً على صفحات المدونة في وقت لاحق.
لعلم الاجتماع تقاطعات مع كثير من العلوم الاجتماعية الأخرى، مما يجعله في قمة هرم تلك العلوم خاصة بعد التطور الكبير الذي شهده هذا العلم ونشوء فروعه المختلفة. وإذا كانت علاقته بتلك العلوم أشبه بالتوأمة، فإن علاقته بالإعلام هي توأم سيامي حيث يلتصقان، يتنفسان من ذات الرئة ويضخ قلبهما ذات الدم وإن كانا برأسين. فالعملية الاجتماعية تقوم على الاتصال بمختلف طرقه والعملية الاتصالية تستهدف المجتمع بمختلف نظمه.
نلاحظ من خلال تتبعنا للأحداث اليومية، وتناول وسائل الإعلام الجماهيرية لها، مدى التباين في ذلك التناول من وسيلة إلى أخرى ومن مؤسسة إلى أخرى ما يقودنا للبحث عن الخبر كقيمة اجتماعية. ورغم أن تلك الوسائل والمؤسسات تتبع سياسة تنويع الأخبار لاستقطاب أكبر قدر من الجمهور بمخاطبة احتياجاته ورغباته المختلفة، نجد أن هناك تباين في تناول حدث واحد من وسيلة لأخرى. فهناك صحيفة تتناول خبراً ما في صفحتها الأولى وتمنحه ملفاً كاملاً بينما تتجاهله صحيفة أخرى أو تتناوله باقتضاب، كما أن الوسائل المرئية والمسموعة تهتم في نشراتها الإخبارية بموضوعات محددة في طرق طرحها وترتيبها، واخرى تخالفها في التوجه. حتى عرض الصور المتعلقة بالخبر تخضع لقيمته من وسيلة لأخرى. وهذا يعني أن لكل وسيلة ومؤسسة إعلامية وجهة نظرها حول الأحداث ولها قيمها الإخبارية الخاصة بها تحول بموجبها الحدث إلى خبر يحمل تلك القيم التي تخدم سياساتها.
الاتصال والتفاعل الاجتماعي
هذا يستوجب النظر في النظم الاجتماعية الأساسية والفرعية، التي تشكل البناء الاجتماعي، لإبراز العلاقات الرأسية والأفقية لتلك النظم، ومدى تأثيرها على عملية الاتصال عموماً وعلى الخبر الصحفي باعتباره الوحدة الأسياسية في تلك العملية. وكذلك مدى التأثير العكسي على تلك النظم، باعتبار أن العملية الاتصالية لابد أن تتم بين طرفين أو أكثر ولها نماذج متعددة ما يدخلها في إطار التفاعل الاجتماعي.
لكن ما يعنينا هنا هو نموذج الاتصال الجماهيري الذي يعتمد على وسائل اكثر تعقيداً وقدرة على الانتشار لمخاطبة قدر كبير من شرائح وفئات المجتمع (الإذاعة، التلفزيون، الصحافة ...). وهذا النموذج يتصف بضعف الصيغة التبادلية بين المرسِل والمستقبل، وإن كان المرسِل يعتمد في أحايين كثيرة على المزاج العام للمجتمع في صياغة رسالته، التي يضبطها وفق مجموع القيم والمعايير والاتجاهات السائدة، لتحقيق الاستجابات التي يتوقعها. وحسب ما يذكر إيان كريب في كتابه النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس "يفترض بارسونز أن هدف كل فاعل هو الحصول على أقصى درجة من الإشباع، وإذا ما دخل الفاعل في تفاعل مع آخرين وحصل في ذلك التفاعل على الإشباع فذلك مدعاة لتكرار التفاعل. وسيصل الأمر بالفاعلين بعد حين إلى أن يتوقعوا استجابات معينة من بعضهم البعض؛ وبذا ستتشكل بينهم قواعد ومعايير اجتماعية مع قيم متفق عليها، وتكون هذه القيم ضماناً لاستمرار تلك الاستجابات."
كما يتناول مفهوم الخبر الصحفي، تعريفه واجزاؤه وعناصره ونماذجه، ما يتيح لنا تلمس تأثيرت النظم الاجتماعية على بنيته الجزئية والكلية. وإذا كان الخبر الصحفي قد تجاوز مفهوم وصف الحدث الآني، وصار يمثل رسالة إعلامية لها قيمتها واهدافها وينتشر عبر أدوات ووسائل تغطي مساحات جغرافية واسعة، فلابد له ان يتبلور داخل مراكز (مؤسسات، أفراد أو مجموعات) لتكتمل صناعته ومن ثم بثه.
تعرف موسوعة ويكبيديا الإلكترونية النظم الاجتماعية بأنها "عبارة عن مجموعة مترابطة من الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالسلوك الإنساني،وتتحدد طبيعة كل نظام اجتماعي بموجب هذا الترابط بين مجموعة الظواهر الاجتماعية المتعلقة بناحية معينة من السلوك الإنساني التي تميز كل نظام اجتماعي عن النظام الأخر."
كما يطلق مصطلح النظام الاجتماعي على أي من الأنشطة والتفاعلات الإنسانية النمطية والمستقرة. وعبر الترابط بين الظواهر الاجتماعية المتسقة ينشأ النظام الاجتماعي، وعبر الترابط بين النظم الاجتماعية ينشأ البناء الاجتماعي. وإذا كان البناء الاجتماعي يعنى بمجمل أنماط وأنساق السلوك الإنساني داخل المجتمع، فإن النظام الاجتماعي يعنى بنوع واحد أو بنمط محدد من هذا السلوك.
كما يشير المفهوم الوظيفي إلى أن النظم الاجتماعية هي مجموعة من الأنماط السلوكية التي تحدث بصورة منتظمة داخل المجتمع، ويرمي كل نمط من تلك الأنماط إلى تحقيق هدف محدد بذاته، وبموجب هذا الاطراد من السلوك النمطي تحدث حالة من التقنين للسلوك الاجتماعي بما يتفق ويتواءم مع حاجة الفرد والمجتمع. إذاً لابد من اداء النظم الاجتماعية المكونة له لوظائفها الداخلية، ولتلك الوظائف التي تتقاطع بين نظام اجتماعي وآخر، وهو الأمر الذي ينسحب على النظم الفرعية المكونة لكل نظام اجتماعي. وغير نظام العائلة والقرابة، فإن النظم الاجتماعية الرئيسية، والتي تتألف بدورها من مجموعة نظم فرعية تشمل النظام السياسي، النظام الاقتصادي، نظام المعتقدات والنظام الثقافي
نظام الحكم والخبر الصحفي
من خلال لتطور النظام الاجتماعي، وتتبعنا لنماذج الأخبار وتطور نظريات الاتصال، باعتباره (الاتصال) ظاهرة اجتماعية، أو حتى نظام اجتماعي مكون مع غيره لنظم إجتماعية أشمل، نستطيع تلمس مدى تبعية الإعلام للنظام السياسي وبالتالي تأثيره على الخبر الصحفي. ويظهر ذلك جلياً في:
نظام الحكم: لنظام الحكم تأثير مباشر على الخبر الصحفي كمادة إعلامية مرسلة إلى الجمهور. "تتحدد العلاقة بين الصحافة والسلطة والتي تؤثر على الموضوعية الصحفية تبعاً للبناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع الذي تعمل فيه الصحافة" حسب د. محمد حسام الدين "المسئولية الاجتماعية للصحافة". فالسلطة السياسية تحاول باستمرار الهيمنة على وسائل الإعلام، باعتبارها تسهم في تشكيل وعي الأفراد والرأي العام، للسيطرة على انتاج الأفكار والمعلومات لتكييفها حسب رأيها وتدعيم مواقفها وبالتالي المحافظة على طبيعتها، وعلى بنية الدولة.
هذا ينطبق على كافة أنظمة الحكم، فحتى الديمقراطيات الراسخة مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر فيها الصحافة سلطة رابعة و"لا يجوز أن يُصدر الكونغرس أي قانون ... يحدّ من حرية الصحافة..." بحسب (التعديل الأول، وثيقة الحقوق، دستور الولايات المتحدة، 1791) مثلاً، وقفت المحكمة العليا الأميركية إلى جانب الصحف ضد الحكومة في مسألة السماح للصحف بنشر ما عُرف فيما بعد "بوثائق البنتاغون". وقد نشرت الصحف هذه الوثائق السرية لحرب فيتنام، بعد أن حصلت عليها بصورة غير رسمية، رغم الاعتراضات الحكومية" الإ أنها لا تقف بعيداً عن توجيه العملية الإعلامية وبالتالي التحكم في صياغة الخبر وتحميله مضامين تهدف لحماية النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يحكمها. ولنأخذ مثال الحرب التي تبنتها ضد العراق، والتي جاءت أسبابها لامتلاكه أسلحة دمار شامل حسب أخبار بثتها مصادر موثوقة داخل النظام الأمريكي، خدمة لمصالح النظام السياسي ليتلقفها الإعلام ويطرق عليها بشدة ليهيء الرأي العام الداخلي والعالمي للوقوف مع ضرورة إزالة النظام العراقي لخطورته على الأمن والسلم العالميين.
التشريعات والقوانين: تتحكم السلطة في الخبر الصحفي، خاصة في الدول ذات النظام السياسي الأحادي، وفي دول العالم النامي عموماً، بطرق متعددة:
تبدأ بالتشريعات والقوانين المفسرة للدستور حيث تسن السلطة مجموعة من القوانين يجب على الرسالة الإعلامية التقيد بها، مثل قانون الصحافة والمطبوعات في السودان. ولنأخذ الدستور الانتقالي لعام 2005 حسب اتقافية السلام الشامل الموقعة بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان، حيث جاء في المادة (30)
1. لكل مواطن حق لا يتقيد في حرية التعبير وتلقي ونشر المعلومات والمطبوعات والوصول للصحافة دون مساس بالنظام والسلامة والأخلاق العامة، وذلك وفقاً لما يحدده القانون.
2. تكفل الدولة حرية الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى وفقاً لما ينظمه القانون في مجتمع ديمقراطي.
3. تلتزم كافة وسائل الإعلام بأخلاق المهنة بعدم إثارة الكراهية الدينية أو العرقية أو العنصرية أو الدعوة للعنف أو الحرب.
تلك النصوص الواردة تحت المادة (30) من الدستور، بالرغم من ظاهرها المنحاز لحرية التعبير وحقوق المواطن في النشر وتلقي المعلومة، يطالبه بعدم المساس بالنظام الاجتماعي القائم، وفوق ذلك يقيده بالقانون الذي يجيء مفسراً لتلك النصوص. وهو قانون للضبط الاجتماعي يمكن أن يؤدي بمن يخالفه إلى المساءلة القانونية والمحاكمات. وتتخذ السلطة السياسية عدة إجراءات احترازية في ذلك، مثل الرقابة القبلية (المسبقة) لتجيز ما ينشر وتنزع ما يخالف توجهها، وقد تضطر لمصادر العدد بعد الطبع او إيقاف الصحيفة المؤقت أو الدائم أو حتى مصادرتها. يؤكد ذلك ما جاء في تقرير الحريات الصحفية في العالم والسودان 2008 الذي أصدره سودان برس ووتش. "أنواع المخاطر التي تتعرض لها المؤسسات الصحافية:
"ضرورات الخضوع لاقتصاديات الصحافة: (الإعلان، التوزيع ...إلخ) الرقابة المسبقة واللاحقة، ونزع مواد من الصحيفة قبل النشر. المساءلة القانونية والمحاكمات. الإيقاف المؤقت أو الدائم. المصادرة للعدد بعد الطبع. مصادرة الصحيفة بممتلكاتها."
النظام الاقتصادي والخبر الصحفي
لا شك في تأثير النظام الاقتصادي وتقاطعه مع كل النظم الاجتماعية الأساسية والفرعية. ويتجلى تأثيره القوي على الخبر الصحفي من خلال تأثيره على اقتصاديات صناعة الإعلام، وطبيعة النظام الاقتصادي السائد تتدخل بشكل مباشر في العملية الاتصالية. إن تداخل النظام الاقتصادي مع طبيعة النظام السياسي يعملان على تشكيل طبيعة السياسة الإعلامية لضمان المحافظة على المصالح التي يعبران عنها. ومن أبرز الصيغ الاقتصادية المؤثرة والمسيطرة على مجمل العملية الاتصالية والخبر الصحفي فى خاتمة المطاف تتضح من خلال:
التمويل : أو سلطة المال ، حيث أن تمويل وسائل الإعلام يعود إلى المصلحة الذاتية للممول. وسلطة المال لها فاعلية كبيرة حيث أن السيطرة المالية تجعل من وسائل الإعلام في موضع التأييد للممول دائماً وتضع قيم الممول في موضع قيمها، هذا الخط المنتهج من طرف الدولة سوف يؤثر في حرية التعبير. فبعد السيطرة السياسية المباشرة عبر التشريعات والقوانين، تأتي قضية التمويل في صور مختلفة، بدءاً من التمويل المباشر للمؤسسات الإعلامية والصحفية التي تمتلكها الدولة، مروراً بسيطرتها على إقتصاديات الإعلام مثل الإعلانات والتوزيع، وانتهاءاً بمحاربتها الاقتصادية لأي مؤسسة إعلامية تحاول الخروج عن سيطرتها اقتصادياً.
لقد أصبح التحكم المالي في السياسات الإعلامية يؤثر في قيمها الإخبارية ويحد من حرية التعبير باستعمال سلطة المال كوسيلة لكبح حرية الإعلام كلما حاول ضرب مصالح جهة معينة.
نظام الملكية: هناك نوعان من الملكية لوسائل الإعلام، الملكية العامة أي ملكية الدولة أو القطاع العام، وملكية الخواص أو الملكية المستقلة، إضافة إلى وجود الملكية المشتركة بين الدولة والأشخاص، وتتأثر الوسيلة الإعلامية بنوع الملكية ، حيث تبقى هذه الوسيلة الإعلامية والقائمين بالاتصال فيها حاملين لإيديولوجية وصورة من يسيطر على الإعلام . فالأخبار في وسائل الإعلام المملوكة للدولة يجب أن تعكس نظاماً اجتماعياً يحقق مفهوم ومضمون الخدمة العامة أي يدل على وجود المصلحة العامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق