ما بين منتصف عام 1968 ونهاية عام 1969 وقع أكثر من 500 اشتباك عنيف بين الفصائل الفلسطينية وقوات الأمن الأردنية، وأصبحت أعمال العنف والقتل تتكرر بصورة مستمرة حتى باتت تُعرف عمّان في وسائل الإعلام العربية بهانوي العرب.
زار الملك حسين الرئيس المصري عبدالناصر في فبراير 1970، وكانت علاقة مصر بالأردن يشوبها بعض التوتر، وبعد عودته أصدر مجلس الوزراء الأردني في 10 فبراير 1970 قراراً بشأن اتخاذ إجراءات تكفل قيام "مجتمع موحد ومنظم"، وكان مما جاء فيه أن ميدان النضال لا يكون مأموناً وسليماً، إلا إذا حماه مجتمع موحد منظم يحكمه القانون، ويسيره النظام. وكانت الفصائل الفلسطينية هي المعني الأول بذلك القرار، بعد أن نشطت فرقها الفدائية وواصلت مواجهتها للقوات الأردنية وأرادت تقويض الحكم في الأردن.
ففي الوقت الذي قبلت مصر والأردن اتفاقية روجرز، رفضت سوريا ومنظمة التحرير والعراق الخطة. وقررت المنظمات الراديكالية في منظمة التحرير الفلسطينية: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين بقيادة نايف حواتمة، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل، تقويض نظام الملك حسين بن طلال الموالي للغرب حسب تعريفهم.
لم يتصد ياسر عرفات رئيس المنظمة لتلك التوجهات، بل أن بعضهم اتهمه برغبته في السيطرة على الحكم في الأردن. وصرح أبو اياد، وهو الاسم الحركي لصلاح خلف أنه سيتدخل ضد الجيش الأردني إذا تعرضت هذه المنظمات إلى أي ضربة عسكرية من الجيش الأردني بعد أن وصلت حدة التوتر بين الجيش ومنظمة جورج حبش إلى قمتها، الأمر الذي جعل المنظمات الفلسطينية كلها في مواجهة الجيش الأردني.
في 9 يونيو نجا الملك حسين من محاولة فاشلة لإغتياله أثناء مرور موكبه في منطقة صويلح ومحاولة فاشلة أخرى بوسط عمّان، حيث قام قناص فلسطيني كان مختبئاً على مئذنة المسجد الحسيني بإطلاق النار على سيارة الملك واستقرت إحدى الرصاصات في ظهر زيد الرفاعي الذي كان يحاول حماية الملك، وقامت مصادمات بين قوات الأمن وقوات المنظمات الفلسطينية ما بين فبراير ويونيو من عام 1970، قتل فيها حوالي 1000 شخص.
المواجهة الأخيرة ونهاية المنظمات في الأردن
وصل الطريق إلى نقطة اللا عودة. وانقسمت القيادة الأردنية بين التعامل مع الفصائل الفلسطينية واستئصال شأفتها نهائياً من الأردن، وبين من يرى توجيه ضربة عسكرية إليها علها تعيد الأمور إلى نصابها وتحكم سيطرة الأردنيين على كل الأردن. كان الملك حسين من انصار الرأي القائل بالضربة المحدودة وكفى، لكن المؤسسة العسكرية كانت تنزع إلى توجيه ضربة استئصالية قاضية مستفيدة من ومستخدمة تفوقها العسكري، وكان يقود هذا الرأي المشير حابس المجالي ومدير المخابرات الأردنية نذير رشيد. يقول محمد داوود الملقب بابو داوود، وهو قائد المليشا التابعة للفدائيين في الاردن، إن الملك حسين أجابه على سؤاله عن إمكانية تفادي الصراع بين الجانبين فأجاب الملك: لقد كان يدفع الأميركان لنا كل 3 أشهر 3 ملايين دولار بشكل دوري، وفي الفترة الأخيرة دفعوا لنا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة لمرة واحدة، وعندما استدعيت السفير الأميركي لأساله عن السبب قال لي إن الولايات المتحدة لا تراهن إلا على الحصان الرابح.
بعد عملية خطف الطائرات الأربع الشهيرة والهبوط بها في مطار قديم في المفرق وتفجيرها وحجز 288 رهينة واقتيادهم إلى فندق الأردن كونتيننتال في جبل عمان، أعلن في سبتمبر/أيلول من عام 1970 تشكيل حكومة عسكرية برئاسة وصفي التل، وإقالة مشهور حديثة الجازي عن قيادة الجيش وتعيين المشير حابس المجالي قائداً للجيش وحاكماً عسكرياً عاماً، حيث وكّل إلى هذه الحكومة أمر تحرير الرهائن وتصفية وجود الفصائل الفلسطينية العسكري داخل المدن الأردنية، وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد، فعلى الرغم من تهديدات الحكومات العربية للأردن، وضغط الشارع العربي إلا أن عملية حشد آلاف العربات المصفحة والمجنزرات وتحريك الآلاف من الجنود حول عمان والزرقاء استمرت. أرسل حابس المجالي إلى ياسر عرفات يطلبه للمفاوضات، حيث أرسل مجموعة من الضباط للتفاوض مع المنظمات، فرفض ياسر عرفات مقابلة حابس المجالي وأرسل محمود عباس (الرئيس الفلسطيني الحالي) للتفاوض عن الطرف الفلسطيني.
كان هدف المجالي من هذا التفاوض هو إعطاء الجيش الأردني الوقت الكافي لنصب المدافع في مواقع حساسة واتمام عملية الحشد والتي تمت بالفعل، بالإضافة إلى إعطاء صورة بعدم جدية الجيش الأردني بالقيام بأعمال عسكرية، حيث تبين فيما بعد أن تطمينات عربية كانت قد وصلت إلى عرفات تؤكد عدم جدية التحركات العسكرية الأردنية مما أوقع الفصائل في الكمين. وفي المفاوضات طالب محمود عباس إخراج جميع القوات العسكرية الأردنية من عمان واستبدالها بشرطة مسلحة بالعصي فقط! وإسقاط الحكومة العسكرية واستبدالها بمدنية يكون للمنظمات الفلسطينية دور في تشكيلها، ثم يتم التفاوض على باقي النقاط بعد تنفيذ هذه الشروط. أبدى الوفد الأردني رضاه عن هذه الشروط وأنه سيتباحث مع القيادة فيها، وطلب امهاله لليوم التالي حيث سيتم عقد الاتفاق.
أيام ساخنة مع بوادر الشتاء
في اليوم التالي بدأ الجيش تنفيذ الخطة، فبدأت الدبابات والمجنزرات الأردنية بالقصف المدفعي العنيف على مواقع المنظمات الفلسطينية. وبدأت المجنزرات والسكوتات بإقتحام مخيم الوحدات ومخيم البقعة ومخيم سوف ومخيم الزرقاء، واجتياح فرق المشاه لشوارع مدن الزرقاء وعمان وإربد حيث حدثت معارك ضارية فيها. وكانت شدة المقاومة في مخيم الوحدات السبب في دفع القوات الأردنية إلى زيادة وتيرة القصف والضغط العسكري، الأمر الذي ضاعف الإنتقادات العربية للأردن التي لم يأبه بها أبداً. وفي تلك الأثناء طردت كل من سوريا والعراق ولبنان اللاجئين الفلسطينيين إلى الحدود وعزلهم عن المجتمعات. فاستسلم أكثر من 7.000 من المسلحين الفلسطينين إلى القوات الأردنية وقتل الآلاف.
وصل بعض الزعماء العرب يرأسهم جعفر نميري رئيس السودان إلى عمان في محاولة إلى وقف القتال وإنقاذ منظمة التحرير، لكن الجيش كان قد أحكم سيطرته وتفوقه على الفصائل الفلسطينية، وبسطت السلطة السياسية في الأردن سيطرتها على الموقف في كل الأردن. وتمكن الباهي الأدغم وزير خارجية تونس من الوصول إلى مخبأ ياسر عرفات في السفارة المصرية في عمان، حيث سهلت عملية مغادرته الأردن إلى مصر.
وطُردت الفصائل الفلسطينية من الأردن إلى لبنان، لتشتعل الحرب مجدداً هناك بعد إقامة مخيمات للاجئين الفلسطينيين، وصارت تلك المنطقة خاضعة للسيطرة الكاملة للمنظمات الفلسطينية داخل بيروت. حرب كشفت عن مدى الإحباط الذي أصاب الفلسطينيين جراء أحداث الأردن، وجراء ما يجري في فلسطين من توسع رقعة الاستيطان الإسرائيلي. وهناك بدأ التفكير وسط القيادات الفلسطينية في تأسيس منظمة أيلول الأسود التي كان هدفها الرئيسي هو الإنتقام من جميع الشخصيات التي أفشلت وجودها السياسي في الأردن.
"الغضب الذي كان يعتمل في صدور الفدائيين وإحساسهم بالعجز، كان يمكن ان يقود إلى نتائج كارثية إذا لم يعاد توجيهه بصورة إيجابية لصالح القضية"، هذا كان تصور بعض القادة في فتح. وحتى لا تنطفيء حماسة هؤلاء الشباب كان لابد من عمليات نوعية بعيدة عن الشكل التقليدي الي كانت تقوم به الفصائل الفلسطينية. عمليات تستهدف ضرب مصالح إسرائيلية بعيدة، كما تستهدف مشروع السلام الذي تبنته الأنظمة العربية المؤثرة.
خططت المنظمة لعملياتها الأولى مستهدفة بعض الشخصيات الأردنية. فجاءت اولى محولاتها لإغتيال زيد الرفاعي في لندن في 15 سبتمبر 1971، أي بعد عام من أحداث أيلول الأسود، لكن العملية لم تصل إلى غاياتها إذ باءت بالفشل. كما اغتالت في 28 نوفمبر 1971 رئيس الوزراء الأردني وصفي التل في القاهرة، الذي حملته المنظمة مسؤولية فشلهم في السيطرة على النظام في الأردن، على يد عزت رباح. ثم كانت الإنطلاقة إلى عمليات نوعية خارج المنطقة وفي اوربا تحديدأ.
يقول أبو داؤود القيادي في المنظمة "في الأسابيع التي تلت مقتل وصفي التل وخصوصا في أعياد نهاية السنة كان عدداً كبيراً من الشبان الفلسطينيين الذين يدرسون في أوروبا يأتون إلى لبنان في محاولة للاتصال ب"أيلول اسود" كما كانوا يؤكدون، وكنا نتعجب لعدم عودة هؤلاء الطلاب لإكمال دراستهم أو زيارة أهاليهم، لم نتأخر في إيجاد السبب، وهو كما علمنا أن الموساد أجبر بعضهم على استقاء معلومات حول نشاطاتنا في بيروت وهذا أعطاني فكرة: لم لا نجند هؤلاء الطلاب ونصنع منهم عملاء مزدوجين لنصل إلى الضباط المتعاملين معهم.
لم يوافقني أبو اياد وأبو مازن فحسب بل توصلنا الى المشروع الآتي: أن ننشئ على هامش جهازي الاستخبارات ومقاومة التجسس، اللذين يديرهما أبو يوسف، مجموعة "لمحاربة الموساد في أوروبا". وقررنا أنه من الأفضل أن يعلم بها أقل عدد من القيادة."
لتبدأ الرحلة من ميونخ إلى الخرطوم.
إستفادت هذه الحلقات من:
أرشيف جريدتي الصحافة والأيام الصادرتين إبان تلك الأحداث.
تقرير وزارة الخارجية المودع لدى دار الوثائق القومية (احداث أيلول الأسود في الخرطوم .ز الواقعة وردود الأفعال).
مذكرات أبو داؤود.
بعض المقالات والمتابعات في الصحف والانترنت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق