مشاهد من المحاكمة
في ترجمة غير رسمية نشرتها اللجنة الإعلامية التابعة لوزارة الإعلام، وقتها، لدفاع المتهم رولف شتاينر أمام المجلس العسكري العالي "المحكمة العسكرية" والتي تناول وفيها جوانب متعددة حاول فيها تفنيد خطبة الادعاء وأقوال شهود الاتهام الذين أكدوا على دخوله السودان وإقامته بطريقة غير شرعية، كما اكدوا على تهمته بإثارة الحرب ضد الدولة ومخالفة عدد من قوانين البلاد. في هذا الجزء سنتناول رؤيته حول مفهوم المرتزقة الذي طرحه في خطبة دفاعه إذ قال:
بعد ما يقارب العشرين عاماً من ماضي عسكري وزيادة على معارك لا حصر لها أجد نفسي اليوم أمام هذه المحكمة العسكرية التي أصبحت لي آخر حلقات المعارك التي أخوضها. فبعد كل المعارك التي خضتها مع الفرقة الأجنبية كمحارب، ها أنا أتحول إلى مصارع يخوض حرباً ضد حيوان مفترس ألا وهو الصحافة التي يقال إنها صحافة العالم الحر. إن القذارة والجهل الذي رمتني به صحف الإثارة والذي انعكس في كلمات ممثل الادعاء لا يهمني، فرأي البسطاء الموضوعيين من الناس لهو أعلى شيء بالنسبة لي. إن الذي أدافع عنه هنا ليست هي حياتي إنما المثل الأعلى المقدس للجندي وهو شرفي.
إنني لا أعرف قوانين هذا البلد وليس لدي حيلة لمعرفة أساليبها القانونية حتى أستطيع الاستناد إلى موقف دفاعي أفضل، إن قوانيني لهي تقليدية تحتمها مثلي العلليا، شرفي وضميري، إنني لأفضل أن أموت محارباً على أن أتنازل شعرة عن مثلي أو أحيد عنها.
إن لغتي قاسية ولكنها عادلة وهي واضحة ودقيقة، بفخر وسرور أضحي من أجل ذلك الشعب الأفريقي المعذب في جنوب السودان ولعل ذلك يدفعه خطوة نحو الحرية. الحرية، وكما عرفت في قرار لجنة حقوق الإنسان لجمعية الأمم المتحدة في سنة 1948 تعني شعب جنوب السودان "حر من السيادة، من الضغط ومن التفرقة أياً كان نوعها" كل المساواة لكل البشر، كل الأجناس كل القبائل.
تلك كانت دوافعي وخطوطي العريضة في أسباب مساعدتي لشعب جنوب السودان، مشورة وعملاً دون مراعاة لحياتي، أيضاً كان ذلك هو السبب الذي أعلنت فيه في 29 ديسمبر 1962 وقفتي مع ذلك الشعب وطلبت فيه أيضاً الحصول على جنسيتهم.
من بين ثنايا حديث ممثل الاتهام عرفت وكلي أسف واستغراب أن هذه القضية ومنذ بدايتها صيغت وبها غرض غريب. ليس فقط شتاينر هو الذي سيحاكم بطريقة موضوعية، إنما كل مجرمي الاستعمار قديمه وحديثه، كل الإمبريالية كل المجازر التي ارتكبت منذ عهود، كلها ستلقى على رأسي.
حديث عن المرتزقة
إن الحديث عن المرتزقة والاستعمار في هذه المحكمة لهو تبديد وضياع للوقت وسيكون مجرد فرقعة عالية، ولكن ذلك لا يمس شتاينر ولا يمس شعب جنوب السودان. أنا لن أخطئ في اختيار أدواتي وسأرد بحزم ودقة ودون خوف.
إن ممثل الاتهام يتكلم متعمداً عن منشورات انجليزية فيها الشك والإثارة، وهو يعلم أن شتاينر محتجز وفي وضع لا يسمج له بالاتصال بالعالم وليس له إمكانية باقية إلا ذاكرته الضعيفة وعقله البسيط لكي يدافع عن نفسه. إن ممثل الادعاء يعالج بسطحية الارتزاق في العصور الوسطى ودون مراعاة لشخصية أو أخلاق وظروف تلك المرحلة وذلك العصر حتى يعطي المجلس العسكري العالي صورة موضوعية واضحة.
إن اشتراك المرتزقة في حرب التحرير الأمريكية لظاهر لكنه لا يطابق الحقائق التاريخية في أي مجال. لقد تطرق الحديث عن المرتزقة الألمان وعن المعاهدة بين القيصر الألماني وبريطانيا العظمى في عصر حب التحرير ما بين 75/1776 أو 1777. الحقيقة هي أن الامبراطورية الألمانية أعلنت في 18 يناير سنة 1871 في فرساي واختير الملك البروسي كأول ملك. بهذا يصبح جلياً أن القيصر الألماني عاش بعد 95 عاماً من حرب التحرير الأمريكية. أيضاً يصبح جلياً أنه من غير المحتمل أن يكون هنالك مرتزقة ألمان في حين لم توجد أمبراطورية أو دولة ألمانية. الصحيح أن كتائب هاسن وكتائب براندبيرق وقفت وقفتها مع الملك الانجليزي في حربها ضد المستعمرات المتحدة في أمريكا والتي سميت فيما بعد بالولايات المتحدة.
إن الامبراطور النمساوي "جوزيف" والذي كان يحكم مع والدته القيصرة ماريا سيرسيا النمسا إبان حرب التحرير الأمريكية حائزاً على لقب "القيصر الرومي للشعب الألماني" وأي خلط في ذلك الموضوع غير موثوق به.
إن نقطة التحول في حرب التحرير الأمريكية والتي تم فيها نصر سارتوجا في أكتوبر 1776 حيث استسلم جيش انجليزي بحاله قد صمت عنها التاريخ. إن التاريخ فيه دلائل واضحة عن اشتراك 5 آلاف من الجنود الانجليز و2700 من جنود هاسن في الجيش المهزوم. كذلك لم تذكر حقيقة أن جيش التحرير الأمريكي كان يضم الكثير من الضباط الفرنسيين من بينهم الجنرال المشهور "الماركيز دي لافييت".
بذا، أيها المجلس الموقر، يظهر جلياً أن المتطوعين والذين يعملون من أجل معتقدات عليا لا يحق معاملتهم كمرتزقة. كذلك قال ممثل الادعاء "إن الرجل الأبيض عامل الرجل الأسود بقسوة" هذه يا سيادة الرئيس عنصرية مخربة ظاهرة وإني كمناهض للعنصرية أشعر بالأسف وأنفي ذلك.
أيضاً ذكر ممثل الاتهام أن "كابلان" ساعد المتهم في الحصول على جواز سفر مزور من ألمانيا الغربية، وقد ساعدته مؤسسة "آكشن كومتي بيافرا سودان" في الحصول على تأشيرة خروج.
سيادة المجلس العسكري الأعلى، إن جواز سفري الألماني رقم 18390 بتاريخ 11/6/1969 في كولن كان موجوداً حين تسليمي في 10/1/1971 في يد اسفير الألماني في كمبالا. في أكتوبر 1970 أوكلت حكومة كمبالا لسفارة ألمانيا هناك التحقق من جواز سفري لإثبات شخصيتي الألمانية. بخصوص تأشيرة الخروج من ألمانيا أود أن اوضح شيئاً تعرفه حكومة السودان ويعرفه كل إنسان متعلم في هذا البلد "لا توجد في ألمانيا كما هو الحال في كل البلاد الغربية تأشيرة خروج". وأيضاً هناك اتفاقية بين ألمانيا ويوغندا تعفي كل أنواع التأشيرات بين البلدين.
سيادة المجلس العسكري العالي، كذلك الرأي العام، إن ممثل الاتهام ليس لديه تهم وواقعية، وإنما اعتمد على منطق الذاتية والتفرقة العنصرية والتحوير والكذب.
في الحقيقة إن الحكومة السودانية وهذا المجلس العسكري العالي أرادا عقد محاكمة علنية عادلة مما يؤكد أنهما لا ينحازان إلى المدعي العام. قال المدعي العام "جنود مثل شتاينر باعوا أنفسهم للشيطان" واضح إنه اكتشف هذه الحقيقة بطريقة لا علم لي بها، ولا أذكر أنني وقعت عقداً مع الشيطان ربما يرجع نسياني لذلك إلى ذاكرتي الضعيفة. رغم ذلك انتهز هذه الفرصة بذكر هذه الحقيقة لأتقدم بشكري له بتقييمي كجندي وليس مرتزقة.
هل جيفارا مرتزقة؟
في هذا الجزء سأحاول أن ألقي نظرة موضوعية حيال الارتزاق عكس ما قدمه ممثل الادعاء. في أي اكاديمية للعلوم الحربية في العالم تعطى دروس عن تاريخ التطور العسكري. وفي هذه الدروس يظهر جلياً العلاقة بين تطور الجيوش وتطور الارتزاق. في العصور الوسطى، بل وفي الإمبراطورية المصرية القديمة كان من الفخر أن يكون قلب القوات الفرعونية المحاربة من المرتزقة. إن كثيراً من الفراعنة دعموا سلطتهم بالمرتزقة.
إن قوة المملكة الرومانية اعتمدت أساساً على الفرق الأجنبية. في القرون الوسطى تكونت الجيوش في معظمها من المرتزقة حتى جلالة البابوات كونوا لهم جيوشاً من المرتزقة ليحموا ديارهم أو لغزو ديار اخرى. كذلك الحرس السويسري والذي يمكن رؤيته اليوم في الفاتيكان في حقيقته موروث من العصور الوسطى من نظام الارتزاق في خدمة البابا. إن ميلاد الدولة الوطنية وجيوشها الوطنية في بداية القرن التاسع عشر مثل نهاية الارتزاق.
لقد كان هناك ولا يزال في الجيوش الوطنية لبعض الدول عدد من الأجانب لا يميزهم سوى الميلاد أو الجنسية الأجنبية ولكنهم جزء لا يتجزأ من الجيوش الوطنية، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات دون امتيازات.
إن الجندي الفرنسي هو الذي عمل في الفرقة الأجنبية ومات وسكب دمه من أجل فرنسا "الفرنسي ليس هو من كسب دماء فرنسية من أمه، ولكنه من سال دمه من أجل فرنسا".
إن هناك دوافع ولا تزال تجعل الغريب ينضم إلى صفوف الجيوش الوطنية أو الثورية. وحسب معرفتي فإن مستشار بلادي اليوم كان ميجر في الجيش النرويجي، كذلك كان الأمير الدنماركي أملاكفاري ملازماً في الفرقة الأجنبية الفرنسية، كذلك أوف بري الرئيس السابق لتشيكوسلوفاكيا كان ضابطاً في الجيش السوفيتي. وفي افريقيا كان الرئيس بونجو من الغابون عضواً في الجيش الفرنسي، والرئيس بوكاسا، رئييس أفريقيا الوسطى، كان ضابطاً في الجيش الفرنسي.
وفي حديثي هنا لا أتحدث عن جيوش استعمارية ولكن عن الجيش الفرنسي.
كذلك في الجيش اليوغندي يوجد كثير من الجنوبيين السودانيين، والجنرال إيدي أمين قائد القوات المسلحة اليوغندية هو من جنوب السودان. من يستطيع أن يدعي أن كل هؤلاء مرتزقة أو كانوا مرتزقة.
إن حركة تحرير أنجولا تضم في صفوفها بعض المتطوعين الأوربيين في حربها ضد الاستعمار البرتغالي. وانا هنا لا أعتمد على منشورات مثيرة ولكن على حقائق رأيتها بأم عيني. من يستطيع الادعاء بان هؤلاء المتطوعين والذين ضحوا بحياتهم من أجل مثل عليا في حرب هي في الحقيقة لأجل تحرير أرض افريقية، من يدعي بأنهم مرتزقة؟
هل كان أشخاص مثل جيفارا أو روجيه دوبرييه مرتزقة أم مثاليين؟
لقد برزت ظاهرة إبان نهاية عصر الاستعمار، بداية الستينيات، في الكونغو، وهي ظاهرة البيض الذين لا تربطهم بالجندية سوى اللباس العسكري والتسليح. إنني أسمي هذه الظاهرة "هستيريا المرتزقة" وإنه لمن الخطأ منح أدوات رأس المال، مثل شركة النحاس البلجيكية في كتانقا، وأدوات الاستعمار الشرف وإطلاق اسم المرتزقة عليهم. حتى الارتزاق في عصره السابق لا يمنح لأناس في الزي العسكري وكل طموحهم هو السرقة والقتل والنهب. إن الصحافة وصفت هؤلاء بـ"القميئون" وليس المرتزقة. ويبدو لي ان اللغة الألمانية والانجليزية بدائيتان إذ لا تحويان تعبيراً مماثلاً لهؤلاء.
سيادة الرئيس، ربما هذا ما يفهمه المدعي العام عن المرتزقة والارتزاق.
إن أقوالي التي أدليت بها وكذلك كل تصرفاتي لهي دليل قاطع أنني أتحمل مسؤولية كل ما قمت به من أعمال، وأدليت بكل التفاصيل في أقوالي رغم إنها ستدينني، لكني أدليت بها مختاراً لأبرهن أنني لا أنوي التنصل عن مسؤوليتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق