يقول السفهاء "خميسك ولو تبيع قميصك"، فمساء الخميس يوم ينتظره الكثيرون لينفثوا هواء ساخناً من صدورهم جراء عناء أيام العمل خلال بقية الأسبوع، ويستيقظوا يوم الجمعة في وقت متأخر، كل بحسب سهرته. لكن شاءت الظروف أن تغير خطط الكثيرين وبرامجهم التي وضعوها لقضاء سهرة اليوم، وبعض من كبارات رجال الدولة كان ينتظر إنتهاء حفل العشاء المقام على شرف الإمبراطور هيلا سلاسي بفارغ الصبر. لكن!!
حجم المفاجأة وخطورة الموقف وحداثة مثل هذه العمليات في الخرطوم، جعلت نائب رئيس الجمهورية ووزير الداخلية اللواء محمد الباقر شخصياً يتولى إدارة الاتصالات مع أعضاء أيلول الأسود داخل السفارة، يعاونه وزير الصحة الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم. لا مناص من التعامل مع الوضع بأقصى درجات المسئولية وبأعلى المستويات، ربما يحقق هذا الأسلوب بعض إختراقات مطلوبة في مثل هذه الحالة، لكنه قد يأتي برد فعل عكسي إذا فكر الفدائيون إنهم وبتعاملهم مباشرة مع أعلى رؤوس الدولة سيضغطون في سبيل تلبية مطالبهم. لكن اللواء الباقر لم يتوان في إدارة قرص التلفون للاتصال بالطرف الآخر، وكان على الخط من داخل السفارة السعودية كرم بحكم مهامه يتلقى الاتصالات.
بعد تلقي بيان المطالبة بالإفراج عن الشخصيات الواردة فيه، تواصلت الاتصالات بين كرم نيابة عن المجموعة واللواء الباقر والرائد أبو القاسم بالهاتف، وإذا استدعى الأمر –كما حدث أكثر من مرة- بواسطة الاتصال الشخصي بحضورهما إلى مبنى السفارة، واستمرت الاتصالات طوال تلك الليلة.
كانت المهلة التي منحتها المجموعة للحكومة السودانية حتى الثانية صباحاً لتبليغ الجهات المعنية بمطالبهم والرد عليهم، وإلا سينفذون في رهائنهم حكم الإعدام. وكان كرم أثناء ذلك قد أوضح لهما أن إختيارهم للسودان لتنفيذ هذه العملية لم يكن نتيجة لعداء معه أو تقصير من جانبه نحو القضية الفلسطينية، ولكن جاء ذلك لضرورة اقتضتها الثورة الفلسطينية.
نحن نستهدف أعداءنا أينما كانوا.
هكذا قالها كرم، مؤكداً أن السودان أرض عربية، وأن لهم حرية الحركة فيه مثل غيره من البلاد العربية.
واضاف:
إن ما ينطبق على السودان ينطبق على السفارة السعودية.
ولمزيد من إشاعة روح التعاطف معهم، قال كرم للواء الباقر إنهم يعتزون بما فعله الرئيس نميري في سبيل القضية واقتحامه للأردن أثناء محنة الفدائيين بها، ويفخرون بأحاديثه التي أشاد فيها بكفاح الثورة الفلسطينية، وأشار كرم بصفة خاصة إلى خطابه بالكلاكلة ليوحي بأنه كان حاضراً أثناء إلقاء الرئيس نميري لذلك الخطاب.
اللواء محمد الباقر من جانبه أكد لهم حرص الدولة في الحفاظ على أرواح الرهائن، وأضاف:
وعلى حياتكم أنتم أيضاً. لكن فترة الإنذار النهائي التي حددتموها بالثانية صباحاً، يعني بعد قليل، ليست كافية عملياً لإجراء الاتصالات اللازمة بالحكومات المعنية ببعض المطالب.
وواصل:
أما إسرائيل فإن هناك إستحالة في الاتصال بها.
وتدخل الرائد أبو القاسم ليؤكد لهم ما قاله اللواء الباقر بأن الحكومة لا تتجه مطلقاً لاقتحام السفارة أو إتخاذ تدابير من شأنها أن تعرض حياة المحتجزين أو أعضاء أيلول الأسود للخطر، وأنه لا توجد حول السفارة غير الحراسات العادية.
حالة طوارئ
في تلك الأثناء شرعت عدة جهات في العمل في عدة اتجاهات. فكان أن أعلنت كل من رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية والداخلية حالة الطوارئ. أجرى الرئيس جعفر نميري اتصالاً هاتفياً بجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز أطلعه فيه على ما حدث والموقف الآن، وما سيتخذ من خطوات وإجراءات من قبل الحكومة. فيما دعى وكيل وزارة الخارجية في الحادية عشر مساء الخميس السفراء العرب، وأطلعهم على ما لدى الحكومة من معلومات –على قلتها- وطلب منهم إبلاغ حكوماتهم بالوضع الراهن. وأبدى السفراء العرب إستعدادهم الكامل للتعاون والمساعدة وسط ترحيب السيد الوكيل بكل خطوة تساعد على الخروج من هذا الموقف.
في الوقت نفسه نشطت أجهزة الأمن لمعرفة هوية العناصر الموجودة داخل السفارة، فقد فاجأتها الحادثة التي لم تكن في الحسبان. وبدأت إلتقاط ومتابعة المعلومات التي ترد إليها، وتبين لها من التحريات الأولية أن مجموعة أيلول تتكون في أغلبيتها من عناصر كانت قد وصلت البلاد في اليوم السابق للعملية، وتابعت الخيط إلى أن وصلت إلى فندق الأرز الذي كانت رغبة المجموعة الإقامة فيه لو لا عدم وجود أماكن شاغرة، لتتابع اجهزة الأمن خط السير إلى فندق روكسي الذي قضوا فيه ليلتهم.
وتعرفت أجهزة الأمن على السيارة التي أقلتهم إلى مكان العملية والتي تعرضت لحادث مروري، لكن الأجهزة الأمنية إكتشفت أن فواز يس مدير مكتب فتح مخطط العملية غادر السودان إلى ليبيا عصر اليوم.
أكملت قيادة القوات المحمولة جواً إنتشار رجالها حول السفارة السعودية تحسباً لأي طارئ. تم الأمر في هدوء حتى لا يلفت الانتباه ويثر جنون الفدائيين ويقدموا على خطوة لا ترغب فيها الحكومة. كانت التعليمات واضحة بأن لا يتم أي هجوم على السفارة. رغم ذلك وصلت إلى شارع الخرطوم في بيروت أن هناك قوة من القوات المسلحة السودانية تحيط بالسفارة، وأن هناك قوة سعودية مسلحة في الطريق إلى الخرطوم الآن، لتنفيذ هجوم على السفارة السعودية وإطلاق صراح الرهائن المحتجزين.
جرت إتصالات على الفور بين قيادة منظمة أيلول الأسود في بيروت والقائد الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء اللبناني لإبلاغ السفير السوداني ببيروت تلك المعلومات، مع تهديد صريح بأن أعضاء أيلول الأسود سيهاجمون كل السفارات السودانية في الخارج إذا ما ثبتت صحة تلك المعلومات. وكانت الخطوط الساخنة مفتوحة بين لجنة الاتصال في الخرطوم وكل عواصم الدنيا، فتلقى اللواء الباقر فوراً إتصالاً من السفير السوداني ببيروت يبلغه بالرسالة التي وصلته، لكن اللواء نفى له تلك المعلومات وطالبه بالتأكيد على موقف الحكومة الحريص على سلامة الرهائن ومحتجزيهم.
طبيب في السفارة
لم تتوقف الاتصالات بين اللجنة ومجموعة أيلول داخل السفارة، وتوصل الطرفان إلى ضرورة إرسال طبيب للإطمئنان على حالة الرهائن وتقديم العلاج اللازم للقائم بالأعمال البلجيكي الذي أصيب بطلق ناري في بداية الهجوم. أوفدت الحكومة طبيباً يتبع للسلاح الطبي برتبة مقدم لمتابعة الوضع الصحي داخل السفارة، كانت المرة الأولى التي يدخل فيها المقدم طبيب النور عبدالله لتقييم الوضع ومن ثم تحديد ما يمكن عمله.
إستقبله الفدائيون بشيء من الحذر في بادئ الأمر، وتوجه إلى البدروم بتوجيهاتهم حيث يستلقي القائم بالأعمال البلجيكي المصاب مقيداً. نظر إلى حيث الجرح وحدد أنه يحتاج إلى عملية صغيرة عاجلة لتفادي أي مضاعفات، وأطلع كرم القائد السياسي للعملية بذلك. قبل أن يستدير راجعاً طلب منه كرم أن يفحص إصابات المستشار الأمريكي مور، وكان مصاباً في وجهه من الجهة اليسرى وبه خدش وورم، وكان مقيداً أيضاً.
قال المستر مور إنه بحالة جيدة، لكنه طلب من الطبيب مراجعة عينه خوفاً من إصابتها. وبعد فحصها وجد الطبيب أن لا شيء مزعج وطمأنه بأن عينه سليمة وأنها لم تتأثر بإصابة الوجه. بعد انتهائه من مراجعة المصابين إلتقى المقدم طبيب النور عبدالله السفير السعودي وهو جالس في صمت وصحته جيدة وتقف بجواره زوجته، وليس مقيداً، كما كان القائم بالأعمال الأردني جالساً على كرسي دون قيود. لم يكن هناك ما يفعله الآن لذلك خاطب الطبيب قائد العملية بأنه سيذهب ليعود مرة أخرى لمعالجة المصابين.
سأله كرم عن رقم تلفونه، فقال له أن يتصل باللواء الباقر وهو سوف يستدعيني إذا طرأ شيء قبل عودته.
لكن كرم استوقفه قبل أن يغادر وقال له:
أكتب أرقام هواتف منازل السفراء المحتجزين –وطلب من السفير السعودي إملاءها للطبيب، ثم واصل: أرجو الاتصال بأسر المحتجزين وتطمينهم على حسب ما رأيت.
ثم أردف:
قل للأسر أن تتصل بالحكومة السودانية وسؤالها عما تم بخصوص المحتجزين.
كانت تلك إشارة واضحة للضغط على الحكومة بواسطة تلك الأسر، وزيادة حالة التوتر داخل أروقتها بعامل إضافي. واصطحب كرم الطبيب إلى البوابة المفضية إلى الخارج وسأله فجأة:
طبعاً الأيام دي عندكم عيد.
نعم عندنا عيد.
الشعب الفلسطيني 25 سنة ما شاف عيد. هل الشعب الفلسطيني شاف عيد؟
رد عليه الطبيب:
أبداً.
طلب منه كرم ان يبلغ اللواء الباقر بأن أي محاولة لإقتحام السفارة سوف نقتل المحتجزين ونقتل أنفسنا. ثم خرج الطبيب ليستقبله الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم عند البوابة الخارجية وينقله إلى قصر الشعب حيث اللواء الباقر وجمع من الوزراء و(شخص أمريكي) ينتظرون معلوماته عن الوضع داخل السفارة.
لم يمض وقت طويل حتى عاد المقدم طبيب النور عبدالله إلى الميز في السلاح الطبي، وطلب تحضير معدات إسعافية لتضميد جراح البلجيكي والأمريكي، واتصل به اللواء الباقر يستعجله العودة إلى السفارة بصحبة محضر عملية. إتجه الطبيب إلى السفارة السعودية للمرة الثانية بصحبة محضر العملية وعند بلوغهم البوابة الرئيسية دخل هو أولاً حسب التوجيهات الصادرة إليهم وبعدها تقدم محضر العملية ليخضعوهما للتفتيش.
توجه الطبيب بصحبة احد الفدائيين مباشرة إلى حيث يوجد القائم بالأعمال البلجيكي، ووجد حالته النفسية أسوأ مما تركه قبل لحظات، فباشر خياطه الجرح بمساعدة المحضر. عند انتهائه أشار لقائد العملية كرم وأوضح له أن الرجل الجريح يحتاج لحقنة منومة، وبعد موافقة كرم حقنه الطبيب. ثم راجع الخدوش في وجه المستشار الأمريكي وقدم له ما في استطاعته من اسعافات أولية.
بعد أن اكمل الطبيب عمله توجه خارجاً وأثناء ذلك سأله أحدهم:
هل في بوليس كتير؟
قال:
نعم.
سألوه مرة اخري:
هل في ناس كثيرين؟.
قال:
نعم.
وسئل من جديد:
هل في جيش؟.
قال الطبيب:
ما متأكد.
استفادت هذه الحلقات من:
أرشيف جريدتي الصحافة والأيام الصادرتين إبان تلك الأحداث.
تقرير وزارة الخارجية المودع لدى دار الوثائق القومية (احداث أيلول الأسود في الخرطوم .ز الواقعة وردود الأفعال).
مذكرات أبو داؤود.
بعض المقالات والمتابعات في الصحف والانترنت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق