آدم اشبادين .. كلنا في السحر شرق - من دفاتري القديمة

أمير بابكر عبدالله

(1)

لا كما سقطت دومة على رأس جد القاص بشرى الفاضل، بل مثلما سقطت تلك التفاحة على رأس نيوتن لتفجر داخل عقله أسئلة السقوط ويخرج لنا بقانون الجاذبية، هكذا انتبهت إلى أن لكل شرق سحر عندما هممت بالكتابة عن صديقي آدم اشبادين. رسخ في ذهني – على الأقل – أن السحر ارتبط بالدول الواقعة شرق آسيا، الهند والصين، أو هكذا ظلت الآلة الإعلامية من أخبار وأفلام وروايات تسوق له، وهو أمر إلى درجة كبيرة من الصحة .. لست أدري ربما ارتبط هذا السحر بالشمس وحكمة إطلالتها اليومية من الشرق في ما نطلق عليه (الشروق). لم يجد سيدنا إبراهيم عليه السلام حجة أبلغ من الشمس التي تأتي من الشرق ليلقم النمرود ملك بابل –الذي حاجه في ربه -حجراً عندما أمره أن يأتي بها من الغرب إن كان إلهاً قادراً على كل شيء، فبهت الذي كفر.

الصورة: من موقع كسلا فيس بوك

هكذا خطرت الفكرة في رأسي أن لكل شرق سحر طالما هو نبع للضياء وإلإشراق، فيما يتسم الغرب بالغموض لارتباطه بغياب الشمس وغروبها، وربما سحر الغرب في ذلك الغموض الذي يكتنف العالم بعد غياب الشمس. وبالمناسبة الأرض كروية وتدور حول نفسها وحول الشمس لذلك يمكن أن يكون ما نتصوره نحن غرباً هو مركزاً للشرق، فخطوط الطول تلك خطوط وهمية من صنع خيال الإنسان. لكن الأهم هو ملاحظة أننا نفكر في حركة شروق وغروب الشمس من قاعدة وهمية، فالشمس مشرقة ولم تغرب أبداً منذ أن خلقت، فهي نجم بينما الأرض كتلة صماء من حجر وماء. إزاء هذه الحقيقة فنحن نتوهم ثبات الأرض ونتخيل أن الشمس هي المتحركة من شرقنا إلى غربنا، في الوقت الذي تتحرك الأرض بنا في سرعة أكبر ليصطدم كل جزء فيها بأشعة الشمس المشرقة دوماً مرة في ميقات معلوم ويتغير موقع الشمس منا حسب حركة الأرض، بينما يظلم جزء آخر أثناء تلك الحركة، وكل ذلك يتم خلال أربع وعشرين ساعة بتوقيتنا الأرضي.

(2)

 صاحبي آدم اشبادين، الذي التقيته بعد نحو عشرين عاماً منذ آخر لقاء بيننا، كان مثلما تركته مشرقا كعادتي به ومشعاً بالضياء، لا غرو إنه من أبناء الشرق ومن مدينة كسلا – بالتحديد – التي ارتبط وجودها بشروق الشمس حين تطل بين قمتي جبل التاكا. تزاملنا في فصل واحد في مدرسة بانت الابتدائية، إلى أن أكملنا تلك المرحلة ثم تفرقت بنا السبل ولا نلتقي إلا لماماً. كنا نطلق عليه، ضمن بعض الزملاء الآخرين، مجلس الآباء لبنيتهم الجسمانية وهيمنتهم على منشط كرة القدم الذي كنا نشاركهم وننافسهم فيه. 

في ذلك الفصل جمعنا شرق آخر عندما فاجأنا الأستاذ (عبدالمنعم ...) في درس خاصة بالمكتبة وهو يخرج من حقيبته كتاباً باللغة الانجليزية للكاتب الفرنسي المبدع في قصص الخيال العلمي، الذي عاش في القرن التاسع عشر، جول فيرن. الكتاب عن رحلة حول العالم في ثمانين يوماً، جال بنا خلاله أستاذنا عبدالمنعم وهو يقرأ باللغة الإنجليزية –التي لا نجيد حرفاً فيها وقتها – ويترجم لنا في لغة بليغة آسرة تلك الرحلة والمغامرات التي تبدأ وتنتهي في لندن، وخاضها الثري الانجليزي فيلياس فوج وخادمه لكسب رهان بقيمة 20 ألف جنيه استرليني ليتفادى كارثة إفلاسه، وينجح في جولته حول العالم التي بدأت من اتجاه الشرق إلى الغرب ليعود بنا إلى مركزه خلال ثمانين يوماً وسط دهشتنا وصمتنا. كان يوماً مغايراً لدروس المكتبة التى اعتدنا عليها ونحن مغمورون في لجة سحر الشرق المطلق.

(3)

مثلما يجتمع الطلبة – والناس عموماً – على هواية مشتركة كإجادة لعبة كرة القدم وألعاب رياضية أخرى أو الرسم أو المسرح أو الكتابة والشعر والصحافة المدرسية الحائطية، جمعتنا آدم اشبادين وآخرين أكثر من هواية أبرزها كرة القدم. كان ذلك بفضل أساتذة أجلاء لنا ساهموا في تشكيل حياتنا والتأثير الإيجابي فيها بقدر ما استطاعوا وبقدر استعداداتنا الذهنية والنفسية، وهم يستكشفون مواهبنا في كل ضروب المناشط المدرسية، ولكلٍ ما يُبرِّز فيه ويستهويه. لكن شاء قدري أن اهتم – أيضاً – بالكتابة والرسم والخط لأكون ضمن اللجنة المشرفة على الجريدة الحائطية لفصلنا بالمدرسة. 

ليس هذا ما في الأمر ولكنه كان مدخلاً للتعرف على الطاهر صديق الذي يسكن وقتها مع أسرته في مدينة كسلا، جار آدم اشبادين في حي العرب. شاب جميل المحيا وجهه يضج بالإشراق، لا يدخل علينا في الفصل إلا وتتقدمه تلك الابتسامة المضيئة. كان يكبرنا بعدة أعوام، وطالب في المرحلة الثانوية حينها، تلمح فيه النجابة والذكاء والحس الجميل. الذي فتح له بوابة المدرسة ونحن بعد تلامذة في الابتدائي هو خاله وأستاذنا الفاضل عبدالعزيز سيد أحمد الباشا، أراد أن يستعين به في مجال يفيدنا فيه ألا وهو الجريدة الحائطية ليصبح مشرفاً عليها. "النبراس" مكتوبة بخط جميل غير تقليدي، هو اللوقو الذي صممه الطاهر صديق لجريدتنا فبدت مزهوة بين الجرائد الحائطية للفصول الأخرى لتنافس حتى جريدة تلاميذ الفصل الأعلى في سلم المدرسة التراتبي. كنا صغاراً مزهوين بأنفسنا وقدرتنا على المنافسة طالما بيننا الطاهر صديق وكان صاحبي آدم اشبادين أكثرنا زهواً .. يأتي أحياناً مباشرة بزيه المدرسي آنذاك " عبارة عن قميص أبيض ورداء رمادي اللون"، قبل أن يصل إلى منزلهم. استمر الطاهر صديق مثلاً لنا، خاصة بعد دخوله الجامعة .. لم يمنعه ذلك من زيارتنا ونحن في السنة النهائية من المرحلة الابتدائية فظللنا نحفظ له دائما توجيهنا وإرشادنا ومساعدتنا رغم إنه ليس من طاقم المدرسة، ربما هذا ما جعله يدفع بكل جهده في سبيل ذلك.

(4)

لعنة الله على السياسة، هذا ما قلته لصاحبي آدم اشبادين وأنا ألتقيه قبل أكثر من شهرين بعد كل تلك السنوات الطويلة. تحدثنا كثيراً .. وتذكرنا كثيراً من الأشخاص وأحداث الصبا، إلى أن جاءت محطتنا الأبرز الطاهر صديق فقال لي "البروفيسور الطاهر الصديق توفي إلى رحمة مولاه في حادثة الطائرة التي كانت تقل وزير الزراعة المتعافي قبل سنتين". أصابني الوجوم. لهذا السبب كررت ما قلته لصاحبي "لعنة الله على السياسة"، وانا أقلب صفحات الانترنت ومحركات البحث لمزيد من المعلومات عن إبن كسلا البروفيسور الطاهر صديق. بسبب السياسة يمكن أن تتمنى هزيمة الآخر بأبشع الطرق، وهل هناك أكثر بشاعة من الحرب؟! وتأخذك الشماتة فيما يحدث له من كوارث، بل وتتمنى لشخص مثل المتعافي في قمة هرم السلطة الموت تحت أنقاض طائرة محترقة، وتتحسر أنه نجا من الحادثة، هكذا أعادت الإنقاذ ومشروعها الحضاري صياغة إنسان السودان، إنه مشروع الحركة الإسلامية التي بدأ عتاة مثقفيها وسدنتها في التنصل منه كما تتساقط أوراق الصفصاف مع بشائر الشتاء، هذا قبل أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم بأن هذه إرادة الله في مسيرة الحياة والموت. تلك باتت ظاهرة تستحق البحث الاجتماعي وفقاً لشروطه العلمية.

وأنا أنقب في سيرة الراحل الروفيسور الطاهر الصديق التي غابت عني كل تلك السنوات، وجدته مثل صاحبي آدم اشبادين مشرقاً كعادتي به ومشعاً بالضياء وما زال ينثر الخير في كل مكان يحل به. قفز تساؤل إلى ذهني "هل كان عضواً في الحركة الإسلامية؟" قلبي قال بأن لا رغم أنه بلغ موقعاً لا يبلغه صاحبه في زمن سيطرة الإسلاميين على السلطة إلا بالتمكين. بصراحة هو متبتل في محراب الله ولا يشبه الحركة الإسلامية، فهي لا تستحقه أن يكون عضواً مشاركاً فيها، فلا يمكن لشخص مثله أن يشارك في نفي الآخر وهو الذي علمنا كيف نحب الآخرين، ولا يمكن لشخص مثله أن تسير قدماه في طريق مليء بشبهة سيرة الفساد والاستبداد التي صاحبت سيطرتها على الحكم، فهو إن كان يرضع جرو كلب لأنه فقد أمه كما جاء في "اليوتيوب عن سيرته" فذاك شخص لا يشبه الحركة الإسلامية التي جوع حكمها الناس وشردهم ونكل بهم. لك الرحمة أستاذي أيها الطاهر الصديق، فقد كنت مثالاً وقدوة لنا، ولأسرتك الصغيرة والكبيرة خالص العزاء وإن جاء متأخراً.