مـن ميـــونخ إلـى الخـــرطـــوم
إغتيالات في قلب الخرطوم
قصة طويلة يجب أن تروى قبل هبوط ستة من أعضاء منظمة أيلول الأسود الفلسطينية مطار الخرطوم عشية أول إحتفال للبلاد بأعياد الوحدة في عاصمة الجنوب "جوبا" بحضور الإمبراطور الأثيوبي هيلا سلاسي. فالقصة لم تبدأ هنا في العاصمة السودانية الخرطوم بالهجوم على منزل السفير السعودي آنذاك عبدالله الملحوق عميد السلك الدبلوماسي حينها. فما بين سبتمبر/أيلول 1970 حتى مارس 1973 تاريخ الهجوم على منزل السفير جرت أمور كثيرة قادت مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين إلى الهبوط في مطار الخرطوم، وقبل أن يستريحوا من عناء ووعثاء السفر كانوا قد نفذوا عمليتهم بدقة كاملة عصر اليوم التالي.
العملية التي خطط وأعد لها بعض اعضاء مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الخرطوم بدقة شديدة، لتهز أركان العالم حينها وهو يتلقى انباء إغتيال مستشار السفارة الأمريكية كريتس مور المغادر إلى واشنطن، وبسببه أقام عميد السلك الديبلوماسي حفل لوداعه بحضور كبير من مختلف البعثات الدبلوماسية، إضافة إلى إغتيال السفير الأمريكي الجديد كليو نويل إلى جانب القائم بالأعمال البلجيكي في الخرطوم.
كلو بسبب النكسة ...
إنتهت حرب يونيو/حزيران 1967 بين العرب وإسرائيل إلى نتائج جديدة خلقت واقعاً مغايراً عما قبلها. استيقظ العرب بعدها ليجدوا إسرائيل تمددت في رقعة كبيرة على مساحة الوطن العربي تجاوزت الأرض المحتلة عام 1948، فقد إجتاحت قواتها وسيطرت على كل ما تبقى من فلسطين من الضفة الغربية وحتى قطاع غزة. لم تكتف بذلك بل انتشرت قواتها داخل الأراضي المصرية لتبسط سيطرتها على سيناء، واحكمت سياجاً قوياً حول هضبة الجولان السورية لترفع فيه علمها.
إختلت الحسابات العربية والفلسطينية؛ فعلى العرب الآن وبعد هذا الواقع الجديد السعي لاستعادة ما احتلته إسرائيل إثر هزيمة يونيو والنكسة التي سببتها، فبعد أن كانت المطالب هي "تحرير الأرض المحتلة عام 1948"، إنتقلت إلى المرحلة الجديدة وهو إزالة آثار العدوان، أو كما يقول المثل السوداني "تلتو ولا كتلتو".
عدة غرف عمليات تشكلت في أرجاء مختلفة من المعمورة للتعامل مع الوضع الجديد وإفرازاته، فالشرق الوسط يمثل محوراً استراتيجياً في الحسابات الجيوسياسية الدولية. الولايات المتحدة الامريكية كانت ترى أنها سيدة الموقف الآن، وقد مثل لها إنتصار إسرائيل هزيمة للآلة العسكرية السوفيتية في المنطقة. السوفييت من جانبهم فتحوا كل الخطوط الساخنة مع الشرق الأوسط، خاصة الرئيس جمال عبدالناصر، فقد كانت "الجمهورية العربية المتحدة" تمثل رأس الرمح في المواجهة مع إسرائيل، وبالتالي السياسة الإمبريالية التي تقودها واشنطن للسيطرة على المنطقة الاستراتيجية. كانت وقتها الحرب الباردة في أوج قمتها. غرفة العمليات العربية قادتها مصر إلى جانب الأردن وسوريا بدعم كبير من الدول العربية، حيث شهد الموقف العربي تصعيداً كبيراً مثل ذروته مؤتمر قمة الدول العربية الذي انعقد في الخرطوم في 29 أغسطس 1967 وغبار المعركة لم يبارح السماء بعد، ليخرج بلاءاته الثلاث الشهيرة "لا صلح .. لا تفاوض .. لا استسلام".
كان واضحاً أن لاءات الخرطوم هي مجرد استجابة للمطالب الجماهيرية التي عمت أرجاء الوطن العربي مطالبة بالثأر والانتقام، فقد إنشغلت الغرف الأخرى بالإعداد لمشروع تسوية سلمية يضمن مصالح الدول العظمى في المنطقة، فيما تحول الشغل الشاغل للانظمة العربية إلى تحرير الأرض المحتلة عام 67، او تحقيق أي تسوية سلمية تضمن "إزالة آثار العدوان" الذي حدث في ذات العام. ونجحت إسرائيل في فرض ترتيبات جديدة على العالم تركز على أراض لم تكن محتلة في السابق بحيث أصبحت هي موضوع المساومة، فيما خرجت أراضي 48 عن دائرة التفاوض والمساومة وأصبح الوجود الإسرائيلي فيها واقعاً لا يمكن تخطيه.
وسط هذه الأجواء إنعقدت جلسات مجلس الأمن في الفترة من 9-22 نوفمبر 1967، حيث استمرت اجتماعاته 107 ساعة توزعت في 32 جلسة، ليخرج بالإجماع على القرار 242 الذي يعد من أهم المشاريع التي لا تزال تستند إليها كافة مشاريع التسوية والتفاوض السلمي إلى الآن.
نص قرار مجلس الأمن رقم 242
"إن مجلس الأمن إذ يعرب عن قلقه المتواصل بشأن الوضع الخطر في الشرق الأوسط، وإذ يؤكد عدم القبول بالاستيلاء على أراض بواسطة الحرب، والحاجة إلى العمل من أجل سلام عادل ودائم تستطيع كل دولة أن تعيش فيه بأمن، وإذ يؤكد أن جميع الدول الأعضاء بقبولها ميثاق الأمم المتحدة قد التزمت بالعمل وفقاً للمادة الثانية من الميثاق:
أولاً: يؤكد أن تحقيق مبادئ الميثاق يتطلب إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط ويستوجب تطبيق المبدأين التاليين:
أ. سحب القوات الإسرائيلية المسلحة من أراضٍ احتلت في النـزاع الأخير.
ب. إنهاء جميع ادعاءات الحرب أو حالاتها واحترام السيادة والوحدة لأراضي كل دولة في المنطقة والاعتراف بذلك، وكذلك استقلالها السياسي، وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها وحرة من التهديد أو أعمال القوة.
ثانياً: يؤكد أيضاً الحاجة إلى:
أ. ضمان حرية الملاحة في الممرات المائية الدولية في المنطقة.
ب. تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين.
ج. ضمان المناعة الإقليمية والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة، عن طريق إجراءاتٍ بينها إقامةُ مناطق مجردة من السلاح.
ثالثاً: يطلب من الأمين العام تعيين ممثل خاص للذهاب إلى الشرق الأوسط كي يقيم ويجري اتصالات مع الدول المعنية بغية إيجاد اتفاق ومساعدة الجهود لتحقيق تسوية سلمية ومقبولة وفقاً للنصوص والمبادئ الواردة في مشروع القرار هذا.
رابعاً: يطلب من الأمين العام أن يرفع تقريراً إلى مجلس الأمن حول تَقدُّم جهود الممثل الخاص في أقرب وقت ممكن".
فيما كانت الأطراف العربية تصر أن القرار ينص على الإنسحاب الإسرائيلى من الأراضى التى احتلت خلال نزاع عام 1967 ، ظلت إسرائيل تصر على أن الإنسحاب هو من أراض احتلتها إلى حدود تعتبرها حدودا آمنة بالنسبة لها. وذلك بسبب صياغة مفردات القرار بطريقة ملتبسة غير محددة، حيث يطلب القرار انسحاب إسرائيل "من أراض" from territories وليس "من الأراضى" from the territories التى احتلتها إسرائيل فى نزاع عام 1967، وبالتالى فإن إهمال اللفظ the فى نص قرار مجلس الأمن أعطى الحق لإسرائيل – من وجهة نظرها- على التمسك بعدم الإنسحاب من كل الأراضى التى احتلتها فى يونيو 1967 .
وبدأت مساعى مبعوث الأمم المتحدة جونار يارنج فى مارس 1969 للتوفيق بين وجهتى النظر العربية والإسرائيلية دون جدوى. ولتحريك الموقف تقدمت فرنسا فى 9 ديسمبر 1969 بورقة عمل تشمل اقتراحات تسوية بين الأردن وإسرائيل، باعتبار أن سيناء لم تكن تمثل مشكلة أمام انسحاب إسرائيل منها. وهنا بدأت المساعى الأمريكية فى مواجهة المشروع الفرنسى لحل مشكلة الشرق الأوسط ، إذ تقدم وليام روجرز وزير خارجية أمريكا بمبادرة فى 19 ديسمبر 1969 أطلق عليها مبادرة روجرز أو "مشروع روجرز Rogers Plan للسلام"، وكانت مبادرة غامضة تم اقتراحها كمناورة لإفشال اجتماع القمة العربية المرتقب فى الرباط، حيث تضمنت المبادرة اعتبار الحدود الآمنة لإسرائيل وكأنها مقاربة لما كان يسمى بخط الهدنة عام 1949، بما يعنى عدم القبول الأمريكى بمبدأ الإنسحاب الكامل، واختلف الوضع بالنسبة لمصر، حيث تضمنت المبادرة الإنسحاب الكامل من سيناء واعتبار الحدود الآمنة لإسرائيل هى الحدود الدولية لمصر مع إسرائيل، مع عدم عودة غزة للإدارة المصرية، وعدم عودة شرم الشيخ للسيطرة المصرية وعدم استبعاد وضع شرم الشيخ تحت إشراف قوات دولية، واقترحت واشنطن اتباع أسلوب رودس عام 1948 فى المفاوضات بدلاً من المفاوضات المباشرة . ورفضت إسرائيل كل بنود هذه المبادرة.
في تلك الفترة، ما بين قرار مجلس الأمن 242 ومبادرة روجرز، نشطت المقاومة الفلسطينية في الأردن التي شكلت قاعدة إنطلاق لها للهجوم على أهداف داخل الأراضي المحتلة، في الوقت الذي كانت الأردن تجري فيه مفاوضات سرية مع الطرف الإسرائيلي غاضة الطرف عن تحركات الفصائل الفلسطينية. إلى أن طرحت مبادرة روجرز الثانية التي تتلخص في قبول كل من مصر والأردن من جهة وإسرائيل من جهة أخرى الإلتزام بوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر ابتداءاً من أول يوليو حتى أول أكتوبر عام 1970 على الأقل، لتسهيل مهمة جونار يارنج مبعوث الأمم المتحدة فى الوصول إلى اتفاق سلام دائم وعادل بناءاً على رغبة الأطراف فى تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 بكل أجزائه، بما فى ذلك الإنسحاب الإسرائيلى من "أراض" from territories احتلت خلال نزاع عام 1967!
وأعادت مبادرة روجرز إطار التسوية إلى الأمم المتحدة وليس إلى الولايات المتحدة، كما أنها لم تكن عرضا مقدما لمصر وحدها، وإنما إطار مفتوح لكل الجبهات. ثم أنها أعادت المرجعية إلى قرار مجلس الأمن 242. وأكدت لأول مرة تعهد الولايات المتحدة بضرورة إنسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضى العربية رغم أنها، مثل قرار مجلس الأمن، تحدثت عن "أراض" وليس عن "الأراضى" المحتلة.
وكان رأى مصر ألا تسارع بالرفض، وكان رأى عبد الناصر الذى أعلنه فى خطاب عام أن نسبة نجاح تلك المبادرة لن يزيد عن نصف فى المائة ، وفى 21 يونيو – بعد يومين من تاريخ المبادرة – كانت إسرائيل هى التى سارعت إلى إعلان رفضها لـ "مبادرة روجرز"، لأن كلمة "الإنسحاب" كانت كلمة مرفوضة دائما من جانب الإسرائيليين.
وأثناء وجود عبد الناصر فى زيارة للإتحاد السوفييتى من 29 يونيو وحتى 18 يوليو (زيارة عمل وعلاج ) تم إبلاغه بنص مشروع روجرز، وفى 16 يوليو قابل بريجينيف وأخبره بنيته فى قبوله، ودهش بريجينيف وتساءل عما إذا كان فى نيته قبول مشروع ممهور بالعلم الأمريكى؟ فرد عبد الناصر عليه بأن هذا هو ما يريده تماما، "فلابد من وقت نلتقط فيه الأنفاس لإستكمال بناء مواقع صواريخ الدفاع الجوى، وإعطاء قواتنا فترة قصيرة من الراحة، ولتقليل خسائرنا من المدنيين" ( كان يبنى المواقع شركات قطاع المقاولات العام، وكان كل موقع يشرف عليه ضابطا واحدا من سلاح المهندسين). واستمر عبد الناصر قائلا "نحن نحتاج إلى إيقاف إطلاق النار، بالرغم من أننا نعتقد أن فرص نجاح المبادرة لاتزيد عن نصف بالمائة، وإسرائيل لن تحترم إيقاف إطلاق النار إلا إذا كان ممهوراً بالعلم الأمريكى".
من الناحية الأخرى استمر رفض إسرائيل للمبادرة لمدة شهر كامل، من أواخر يونيو حتى أواخر يوليو 1970، عاشت فيها إسرائيل دوامة عنيفة خرجت منها وقد قبلت مضطرة بـ "مبادرة روجرز"، وأدى قبولها إلى إنفراط الإئتلاف الوزارى لحكومة الحرب الذى بدأ مع قرار الحرب فى يونيو 1967.
لعل أهم الأسباب التى دعت إسرائيل لقبول مبادرة روجرز هي:
السبب الأول: التدفق العسكري الكبير بشرياً وآلياً من دول الكتلة الشرقية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي إلى مصر، مما أخل بميزان القوى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وزاد ذلك من حساسية الموقف في المنطقة.
السبب الثانى: في منتصف عام 1970 أصبحت كل جبهات إسرائيل مسرحاً يومياً مشتعلاً بهجمات وغارات شرسة من الفدائيين الفلسطينيين على إسرائيل انطلاقا من الجبهة الأردنية، وكذلك من القوات الخاصة والفدائيين انطلاقا من الجبهتين المصرية والأردنية. وازداد عنف تلك الهجمات على كل الجبهات – قبل موعد سريان وقف إطلاق النار - خاصة على طول قناة السويس. وشكل ذلك ضغطاً أمنيا قاسياً على إسرائيل، مما دعا الرئيس نيكسون إلى إرسال رسالة فى 23 يوليو إلى جولدا مائير يحثها على الإستفادة بميزة قبول العرب لمبادرة روجرز لكى تقبلها، مؤكدا لها فى نفس الوقت أن الولايات المتحدة لن تضغط على إسرائيل لكى توافق على تفسير العرب لقرار مجلس الأمن رقم 242 فى حال موافقتها على المبادرة.
السبب الثالث: هو لعبة المصالح والتوازنات الدولية بين القوتين الأعظم -أمريكا والإتحاد السوفييتى- وخاصة فى منطقة الشرق الأوسط، حيث اقتنع الرئيس نيكسون بالإستراتيجية التى نصحه بها مستشاره كيسينجر للأمن القومى، التى كانت تعتمد فى الأساس على إضعاف الوجود السوفييتى بالمنطقة، والعمل على طرد الوجود العسكرى السوفييتى منها، وأن ميزة تلك الإستراتيجية للولايات المتحدة فى رأى الأمريكان، هى إيصال العرب إلى قناعة بأن الولايات المتحدة وليس الإتحاد السوفييتى هى التى تمسك بيدها مفاتيح الحل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق