فاغنر في ليبيا
اللحظة التي أفاقت فيها روسيا من ثباتها ووجدت نفسها خارج المسرح الأفريقي، كانت يوم صدور القرار رقم 1973 مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بتاريخ 17 مارس 2011، أي بعد شهر واح من إندلاع الثورة الليبية ضد نظام معمر القذافي. ما حدث هو أن روسيا ابتلعت الطعم الذي اتقنت تحضيره الولايات المتحدة وبقية أعضاء حلف الناتو، باقتصار القرار على فرض منطقة حظر جوي لشل قدرات طيران القذافي العسكري.
تقدمت فرنسا ولبنان وبريطانيا بمشروع القرار للمجلس الدولي، بعد أن اقتربت قوات القذافي من معقل الثوار في مدينة بنغازي شرقي البلاد باستخدام سلاحها الجوي كميزة تفضيلية، خاصة بعد ورود تقارير عن ضحايا مدنيين في تلك الهجمات. وكان لجامعة الدول العربية الدور الرئيسي في دفع القرار الذي تبنته معظم الدول الأعضاء قبل اجتماع مجلس الأمن لتدفع به لبنان العضو في الجامعة وممثلها في المجلس الأممي مطالبتها بجلسة طارئة لمناقشة الموقف في ليبيا.
ووجه مشروع القرار بمواقف متابينة وسط عضوية مجلس الأمن مما أدى إلى تأخير إجازته لثلاثة أيام متتالية. جرى التصويت لإجازة مشروع القرار في 17 مارس حيث وافقت عليه 10 دول من بين الـ 15 دولة التي تتمتع بعضوية المجلس، وامتنعت 5 دول عن التصوت هي روسيا والصين وألمانيا والبرازيل والهند. غاب حق استخدام الفيتو ضد هذا القرار، وهو ما تحسرت عليه روسيا فيما بعد وجعلها تحاول إعادة نفوذها ودخولها إلى ليبيا بالشباك بعد خروجها من أوسع الأبواب.
تمثلت أهم نقاط القرار 1973 في:
-فرض منطقة حظر جوي شاملة فوق أراضي ليبيا تشمل الطائرات التجارية والعسكرية لمنع تحليق وتحرك قوات القذافي في أجوائها ومنعها من قصف المدنيين.
-مناشدة جميع دول الأمم المتحدة بمنع إقلاع أو هبوط أي طائرة عسكرية، أو حتى تجارية قادمة من ليبيا أو متجهة إليها من أراضي الدولة.
-مطالبة جميع دول الأمم المتحدة بإجراء كافة الخطوات الضرورية لحماية المدنيين في ليبيا، حتى لو تطلب الأمر تدخلاً عسكريًا من الدولة. لكن في الوقت ذاته فالقرار يُؤكد على أنه من المُستبعد أن تتدخل قوات الأمم المتحدة العسكرية على الأراضي الليبية لاحتلالها.
-مطالبة القذافي بإيقاف فوري للنزاع ووقف إطلاق النار، وفي حال رفض القذافي ذلك فسيُباح لدول الأمم المتحدة أن تنظم عمليات قصف - غير منطقة حظر الطيران - لتدمير قوات القذافي وحماية السكان منها.
-تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1970 المُتعلق بحظر الأسلحة لقوات القذافي على نطاق أوسع وبشكل أفضل، إلى جانب إضافة المزيد من أسماء الأشخاص والمُنظمات إلى قائمة حظر السفر وتجميد الأموال. وتستند هذه القائمة حسب القرار إلى كافة الأموال والأملاك التي يَملكها القذافي، أو له يَد فيها بطريقة أو بأخرى في أي من دول الأمم المتحدة.
وقتها كان رئيس وزراء روسيا هو فلاديمير بوتين، فيما كان رئيس الدولة هو ديميتري ميدفيديف الذي قرر الاكتفاء بالامتناع عن التصويت لصالح القرار الأممي، وعدم مشاركة قوات بلاده في العمليات الأممية التي ستفرض حظر الطيران في الأجواء الليبية. هذه الخطوة أغضبت بوتين حينها، ومنذ ذاك الوقت بدأ التفكير في كيفية استعادة نفوذه في المنطقة مما جعله يضغط في اتجاه موقف متشدد من حكومة بلاده تجاه الموقف من سوريا فيما بعد، إلى أن تم انتخابه رئيساً لورسيا في 2012 ليغير في استرتيجية تعامله مع المشهد الدولي في محاولة منه لاستعادة سطوة الإمبراطورية الروسية وإحياء نفوذها القديم.
بعد خمسة أعوام من انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً لجمهورية روسيا الفدرالية، ظهرت اول بوادر التواجد الروسي في ليبيا. ففي عام 2017 تعاقد قائد الجيش الوطني الليبي، وهو جيش يقاتل ضد حكومة الوفاق الليبية، بقيادة خليفة حفتر مع شركة أمنية روسية لإزالة الألغام في ميناء بنغازي، ثم تطور الأمر بعد ذلك لمشاركتها في العمليات العسكرية لصالح حفتر. ولكن مشاركة فاغنر الحقيقية ظهرت في 2019 عندما أعلن خليفة حفتر شن هجوم واسع من أجل السيطرة على العاصمة طرابلس، مقر حكومة الوفاق التي استنجدت بتركيا لصد الهجوم وهو ما نجحت فيها بالفعل.
مولت وزارة الدفاع الروسية قوات فاغنر في ليبيا بأسلحة متعددة بما فيها طائرات استخدمت في مهام هجومية في معارك حفتر ضد حكومة الوفاق. ونقل تقرير أممي في 2020 عن لجنة مراقبة تطبيق العقوبات على ليبيا أن عدد أفراد مجموعة فاغنر حوالي 1200 شخص في ليبيا. وأقر الرئيس فلاديمير بوتين، في مؤتمر صحفي مع المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل في 2020، بتواجد مقاتلين روس في ليبيا ولكنه نفى تلقيهم دعماً من الدولة الروسية، وفي وقت لاحق قال بوتين إن فاغنر شركة خاصة لديها مصالح خاصة مرتبطة باستخراج موارد الطاقة والذهب والأحجار الكريمة.
لكن على عكس النفي المستمر لبوتين عن علاقة رسمية مع فاغنر، فإن روسيا قررت في 2020 تعزيز مجموعة فاغنر بالمقاتلين الروس المتواجدين في سوريا. ووفقاً لما نشرته المجلة الأمريكية "فورين بوليسي" فإن القيادة في موسكو كلفت العقيد الكسندر زورين، وكان يرأس لجنة المصالحة في سوريا، بتجنيد مقاتلين من سوريا لصالح فاغنر في ليبيا.
تشير تقديرات أخرى إلى أن مجموعة فاغنر كان لديها نحو 3000 فرد تحت قيادتها في ليبيا أغلبهم من السلافيين المنحدرين أساساً من روسيا ولكن أيضاً من روسيا البيضاء وأوكرانيا والمناطق المستقلة في أوكرانيا، إضافة إلى ألبانيا وصربيا. وأضطرت روسيا إلى سحب نحو 1300 من مقاتلي فاغنر بعد انطلاق حربها في أوكرانيا لتعزيز موقفها العسكري هناك. وبحسب خبراء عسكريين ليبيين فإن فاغنر باتت تعتمد الآن في قوتها القتالية على المرتزقة المتواجدين في ليبيا من مالي وتشاد والسودان، بعد أن أشرفت على تدريبهم.
وتشير تقارير صحفية إلى التنسيق التام بين مجموعة فاغنر ومقاتلين ينتمون لفصائل سودانية وتشادية متواجدة في ليبيا، منهم الجنجويد، وساعدوا بشكل أساسي في صد هجوم قوات التحالف الوطني على ميناء سرت في سبتمبر 2020. وتقدر التقارير أعداد المقاتلين السودانيين بين 3000 إلى 6000 شخص، وتشير إلى أن تمركزهم الرئيسي في منطقة الجفرة قرب مقر فاغنر الرئيسي. إلى جانب تعاون المقاتلين السودانيين، كانت مجموعات مقاتلة من جبهة التغيير والوفاق التشادية تتعاون مع جيش حفتر ومجموعة فاغنر في الفترة من 2020 إلى 2021.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق