ظل السودان بموقعه الاستراتيجي يمثل لموسكو مركزاً هاماً في إطار صراع الحرب الباردة واستمر اهتمامها به حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والضعف العام الذي اعترى روسيا كدولة عقب ذلك. ذلك الضعف الذي صادف تعالي الأناشيد الهتافية لإنقلاب الإنقاذ من شاكلة "أمريكيا روسيا قد دنا عذابها"، فلم تعر روسيا الأمر اهتماماً لمشاكلها وخروجها من أكبر تداعي جيوسياسي، مثقلة ومرهقة لتنكفئ على نفسها وتترك الساحة لنظام القطب الواحد.
استيقظ الدب الروسي من بياته الشتوي ليجد الأمريكان تمددوا في كل مكان، وآن له أن يتحرك في كل المساحات الممكنة وفتح خطوط ساخنة بحثاً عن مصالح موسكو واستعادة عزها وسطوتها الدولية. في الوقت ذاته (فاقت) الإنقاذ من ثباتها العميق، واكتشفت بؤس خطابها وخطل سياساتها الخارجية وفشل تعويلها على الحناجر التي ما قتلت ذبابة، فأصبحت تتلفت يمنة ويسرة عسى ولعل أن تجد مخرجاً من ورطة لسانها ومأزق حصارها.
تكشير الأنياب الذي واجهت به روسيا غريمتها الولايات المتحدة، بعد مقلب ليبيا، مثلما استفاد منه نظام بشار الأسد في سوريا بشكل مباشر كما ظهر في التدخلات العسكرية الميدانية منذ 2013، كان نظام الانقاذ الشمولي الديكتاتوري في السودان من أكبر المستفيدين من تلك الأنياب، وهو يعاني من المواجهات الشعبية والمسلحة الداخلية في مناطق عدة بعد انفصال الجنوب وإقامة دولته المستقلة، في مواجهة العداء الغربي الخارجي خاصة إذا أضيفت إلى تلك الأنياب تدخلات الصين وتقاطع مصالحها التي اتسعت في القارة الأفريقية.
برز هذا التكشير عن الأنياب جلياً في موقف سابق لا يستدعي تبادل اللكمات بين الغريمين في مجلس الأمن (موسكو وواشنطن)، في ديسمبر 2013 حول قرار متعلق بالترحيب بالتقدم الأخير في ملف العلاقات (السودانية) الشمالية الجنوبية. في الوقت الذي رأت فيه مندوبة الولايات المتحدة فى المجلس أن يتضمن بيان الترحيب بتلك الخطوة القضايا الكبرى التي ترى أنها لم تنجز، خاصة قضايا دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وتداعياتها، اقتصر المقترح الروسي –وكانت ترأس المجلس في مثل هذا الشهر من العام المذكور- للبيان على الحدث الآني فقط. وقال مندوب روسيا في مجلس الأمن فيتالي تشوركين للصحفيين "السفيرة رايس اختارت أن تسرب لوسائل الإعلام معلومات عن محادثات سرية أجريناها اليوم وفعلت ذلك بطريقة غريبة كما سمعت". وأضاف "محاولة العثور على كل أشكال الدوافع الخارجية ثم أن تأتي باتهامات عديدة وغريبة ليست الطريقة المثلى للتعامل مع شركائنا في مجلس الأمن. وأعرف أنها ليست طريقة جيدة للتعامل مع الوفد الروسي".
الموقف الروسي تجاه السودان ليس بغريب، في معرض المصالح الكبرى ومحاولات استخدام الإزاحة الفيزيائي في التعامل السياسي بين موسكو وواشنطن. التاريخ القريب يذكر أن موسكو الاتحاد السوفيتي هي أول من تضامن مع السودان في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 عندما طالب بإاستقلاله، والسودان لم ينل استقلاله بعد ولم يحظ بعضوية الجمعية. ثم تلى ذلك دخول موسكو بقوة إبان فترة الحكم العسكري الأول برئاسة الفريق إبراهيم عبود، ولا تزال شواهد ذلك الدخول عبر بوابة التنمية الاقتصادية والبشرية تقف ولو على سبيل الأطلال من أمثال مصنع ألبان بابنوسة ومصنع تعليب الفواكه في كريمة وغيرها. ورغم أن نظام عبود ناصب الشيوعية وحزبها في السودان العداء إلا أن ذلك لم يمنع قادة الحزب الشيوعي من زيارة السودان إبان ذلك العهد، وربما تبين العبارة التي ذكرتها (البرافدا) الصحيفة الناطقة باسم الحزب في مقال رئيسي نشر في يوم 17 نوفمبر 1960 الموافق ذكرى انقلاب عبود وورد فيه "أن السودان لم ينل استقلاله حقيقة إلا في عهد عبود"، تبين مدى تطور العلاقة بين البلدين.
لم تنقطع العلاقة بين موسكو والخرطوم بعد انتصار ثورة اكتوبر 64، وتواصلت في أشكال مختلفة ولعل أبرزها في مجال الدعم العسكري عقب هزيمة يونيو 67 وضرب إسرائيل لسلاح الطيران المصري وانكشاف ظهر السودان واحتمال تهديد ميناء بورتسودان. برز نتيجة لذلك فكرة تكوين قوات للدفاع الجوي وتوقيع اتفاقية الأسلحة السوفيتية في يناير 1967، حيث تم الاتفاق على إنشاء لواء صورايخ أرض – جو وتم ابتعاث عدد من الضباط وصف الضباط للدراسة العسكرية في أكاديمية القادة والأركان في أوديسا. وعادت البعثة بعد إنقلاب مايو 69 في أغسطس من نفس العام.
وجدت موسكو نفسها غائصة حتى أخمص قدميها في السودان عقب إنقلاب 25 مايو 1969 بقيادة جعفر نميري، خاصة أن ملامح الشيوعية كانت ترتسم على وجه النظام الجديد. وتواصل الدعم العسكري والتنموي للنظام الجديد وظلت الخطوط بين موسكو والخرطوم مفتوحة، خاصة في مجال التنمية البشرية والدعم العسكري حتى مجزرة يوليو 71 وإنقلاب نميري ونظامه على السوفييت وتوجهه غرباً.
الملامح الجديدة للعالم القديم الذي يتجدد تبدو في الأفق، أو هو اصطفاف عالمي جديد تقوده روسيا التي تحاول استعادة النفوذ والدور السوفيتي بعد أن ظل الدب الروسي غارقاً في بياته صيفاً وشتاءا عقب الانهيار، والذي صادف قمة أزمة النظام الإسلامي في السودان بعد استقلاق الجنوب وذهاب أكثر من 75 % من عائدات النفط التي كانت تذهب لجيوب سدنته دون أن ينال منها التنمية نصيباً حقيقياً.
استفادت السلطة الإسلامية في السودان مثل غيرها من الأنظمة الحاكمة في العالم العربي من تناقضات المواقف بين موسكو، وواشنطن خاصة في تخفيف وتنفيذ القرارت الدولية ضدها. كما استفادت من نزعة موسكو ومحاولاتها التمدد في مساحات ظنتها واشنطن ملكها بوضع اليد، ولو بإمداد السودان بالسلاح الذي نفت موسكو والخرطوم استخدامه في الصراع دارفور (حصان طروادة الذي نفذت منه القوات الدولية للسودان) في العام 2010، وقالت موسكو حينها انها تصدر اسلحة للسودان ضمن إطار التزامها بالقوانين الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بحظر استخدامها في اقليم دارفور.
المصالح الدولية لا تعرف الحواجز، بل تحاول اجتيازها مهما كان سمكها، فهاهو وزير الخارجية الروسي يحط رحاله في العاصمة الخرطوم في ديسمبر 2014. ووسائل الإعلام الروسية تنقل تصريحاته في ختام زيارته بأن "بأن روسيا والسودان يعتزمان تفعيل التعاون المشترك في مجال التسليح والتصنيع العسكري"، ورغم استدراكه بالتشديد على أن التعاون العسكري التقني بين روسيا والسودان "سيتطوّر من دون أن يخل بميزان القوى في المنطقة" وأن الزيارة ستؤكد تصميم موسكو على مؤازرة جهود إكمال عملية التسوية السودانية ــ السودانية وتثبيت التطبيع في دارفور، إلا أنه يمضي في الكشف عن إمتلاك بلاده لخطط واضحة لتنشيط التعاون العسكري التقني بين موسكو والخرطوم.
روسيا الخارجة من رمادها تعد العدة لتكون طرفاً في معادلات داخلية لكثير من الدول، بعد اتجاهها لتبني سياسة خارجية أكثر تشدداً. فقد جاءت التوجهات الجديدة التي وقع عليها الرئيس بوتن مطلع العام 2014 حادة وواضحة تكشف عن نيتها الدفاع عن حقوقها ومصالحها الوطنية في كل مكان. هذا يعني تشكيلها لمحور ومركز القطب الثاني لإعادة التوازن الدولي، وهو ما سيزيد من حدة الصراع في العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق