دخول فاغنر إلى السودان
بدأت التساؤلات عن وجود مجموعة فاغنر الأمنية الروسية تبرز بشدة بعد ظهور مدرعة تحمل قوات أجنبية في وسط الخرطوم أثناء تصاعد حدة الاحتجاجات في مختلف مدن السودان ضد نظام الحركة الإسلامية الذي يرأسه عمر البشير. وكان أول ظهور لتلك المدرعة بعناصرها البيض السحنات بعد شهر من إندلاع التظاهرات، أي في يناير 2019. وبدأت لحظتها المهمة الرسمية العسكرية لفاغنر في حماية النظام المتهالك من السقوط، حيث نفذت دورات تدريبية متقدمة للقوات الخاصة التي استدعاها النظام لحمايته وقمع المتظاهرين.
لكن فاغنر لم تظهر في تلك الأثناء كهابط من السماء، فقبل أن ينفض الرئيس المخلوع عمر البشير عنه غبار السفر عقب عودته من روسيا، حتى بدأت أول أزرع أخطبوط مجموعة فاغنر في البحث عن موطيء قدم لها في السودان، واول ما اختارت كانت منطقة السلمانية غرب النيل شمال مدينة الباوقة ويقابلها شرق النيل منطقة العبيدية التي عرفت بسوق الذهب. وجرت أول مواجهة بين قوات فاغنر والمواطنين هناك حيث قتلت وجرحت قوات فاغنر 5 من المواطنين المحتجين على عمليات تنقيب الشركة عن الذهب في مناطقها.
تعود القصة إلى الزيارة الشهيرة للبشير إلى روسيا حيث استقبله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي على البحر الأسود.في نوفمبر 2017، والتي طلب فيها البشير من بوتين، دون حياء ولن نتحدث عن الدبلوماسية، الحماية. جاء طلب البشير ليعكس الوضع المتأزم الذي كان يعيشه نظامه في سنواته الأخيرة، خاصة بعد انكشاف الغطاء الإيراني الذي ظل يتدثر به لسنوات، ويبتز به جيرانه، وأعلن قبلها عن تخليه عن "إخوانه المسامين" أثناء زيارته لدلوة الإمارات العربية المتحدة في 2015. كل ذلك، إلى جانب انبطاح للغرب والولايات المتحدة الأمريكية وتعاونه الاسستخباراتي مع سي آي إي، لم يشفع له وظل النظام في عزلته وجنراله في متاهته.
زيارة البشير إلى روسيا ولقائه مع الرئيس بوتين، جاءت بتمهيد من "طباخه" وحليفه رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغورزين وهو رئيس مجموعة فاغنر. فعلى الرغم من أن السودان وروسيا وقعا اتفاقاً للتنقيب عن المعادن والنفط في 2014، ودخول شركات مثل شركة "سيبرين" التي وقعت اتفاقاً حضره البشير شخصياً في 2015، لكن الحكومة أنهت عقدها مع الشركة في 2018، إلا أن رئيس مجموعة فاغنر استطاع اختراق حواجز قانون الاستثمار في السودان وعرف من أين يأكل كتف الذهب السوداني وبأقل التكاليف الممكنة وهي العمل في إعادة تدوير "الكرتة". و"الكرتة" هي مخلفات التعدين عن الذهب بعد استخلاصه من الحجارة بواسطة مواد كيميائية.
شهد القصر الجمهوري لقاءات بين البشير ومجموعته الخاصة، بعيداً عن أجهزة دولته وحكومته، ووفد مجموعة فاغنر كان حصيلتها إلى جانب المهام العسكرية من حماية النظام وتدريب القوات، دخول فاغنر في مجال الاستثمار في التعدين عن الذهب بشروط ميسرة، من أهمها العمل في مجال "الكرتة" المقتصرة في قوانين الاستثمار على الشركات المحلية فقط. في مقابل ذلك يرتب رئيس المجموعة لقاء للبشير مع الرئيس الروسي والذي جرى فيما بعد بمدينة سوتشي الساحلية.
بعد لقاء سوتشي بشهر واحد وصلت عناصر فاغنر الاستكشافية ومعهم طاقم حراسة متخصص إلى الخرطوم ومنها إلى السليمانية غرب العبيدية، بعد التوقيع على عقد استثماري مع وزير ووزارة المعادن والشركة السودانية للموارد المعدنية. جرى التوقيع من الجانب الروسي مع شركة "إم انفست" وهي الشركة الأم لـ"مروي قولد" وكان لابد من إخراج يجيده "الكيزان" في هذه الحالة، وكانت الحيلة أن يمتلك أحد السودانيين سهما واحداً في الشركة لكيما تحصل الشركة على امتياز العمل وفقاً لقانون الاستثمار في مجال "الكرتة"، وهو ما حدث بالفعل وجاء التصديق للشركة بالاستثمار في هذا المجال المقتصر على السودانيين فقط بأمر رسمي من رئاسة الجمهورية.
كان نصيب الحكومة السودانية من الانتاج نسبة 28 % تذهب إلى بنك السودان، ولا أحد يعلم إذا كانت فعلاً تودع في خزائن البنك أم في خزائن أخرى. بعد الثورة وسقوط نظام البشير سارعت شركة "ميروي قولد" لتعديل العقد باقتراح منها، وخوفاً من إيقافها عن العمل بعد اكتشاف أمر ملكيتها لفاغنر، إلى رفع نسبة الحكومة إلى 50 % من الانتاج مكتفية بالـ50 % الأخرى. وذكر تقرير للـ"نيويورك تايمز" إن شركة ميروي قولد استوردت، بعد سقوط نظام البشير بـ18 شهراً، شحنة للسودان تضم معدات تعدين وبناء وشاحنات عسكرية ومركبات برمائية وطائرتين مروحيتين للنقل، وتم رصد إحدى المروحيتين بعد عام في أفريقيا الوسطى حيث تحمي قوات فاغنر رئيس البلاد هناك بعد حصول فاغنر على امتيازات باستخراج ألماس.
وصل فلاديمير واولغا خبراء الشركة إلى الموقع على الأرض. إسم فلاديمير في اللغة السلافية اسم مركب من فلادي وتعني مالك ومير وتعني العالم، ليعني الإسم بالكامل مالك العالم فيما يعتبر إسم اولغا مقدساً في روسيا وأوكرانيا لارتباطه بالكنيسة وتاريخ قديم لتلك المناطق التي ارتبطت منذ وقت مبكر بالمسيحية.
لم تعمر فاغنر طويلاً في منطقة السليمانية، إذ سرعان ما جمعت أطرافها وعبرت النيل إلى الضفة الأخرى في منقطة العبيدية. خصصت لها الدولة قطعة ارض لتركب مصنعها فيها. تبلغ الطاقة الانتاجية للمصنع الذي تم تركيبه إعادة تدوير 15 ألف طن من "الكرتة" حيث ينتج كل طن نحو 5 جرامات من الذهب الخالص، أي حوالي 75 كيلو جرام من الذهب شهرياً. تمددت الشركة بعد ذلك لتحصل على امتيازات للعمل في مناطق البحر الأحمر وجنوب كردفان، يقول شهود عيان إنهم اكتشفوا أن الشركة وانتاج الذهب كان تغطية لأعمال عسكرية امتدت بعد ذلك إلى أفريقيا الوسطى، ودول افريقية أخرى. وشاهد بعضهم طائرات مسيرة يستخدمها الروس أثناء تواجدهم في مناطق التعدين، فيما أشارت تقارير صحفية إلى نقلهم لأسلحة إلى ليبيا التي تتواجد فيها عناصر فاغنر في مهام قتالية هناك.
لا زالت تقارير تشير إلى تواجد فاغنر في السودان وعملها المباشر في مجال أمن الاتصالات والسيطرة على الفضاء السبراني في السودان والتحكم فيه لصالح السلطات الحاكمةـ إضافة إلى إطلاق حملات إسفيرية من مركزها في الخرطوم لصالح النظام في روسيا بعد تصاعد العقوبات الغربية عليه.
ونقل تقرير "نيويورك تايمز" عن خبراء ومسؤولين غربيين يتابعون نشاطات فاغنر في القارة، أن الشبكة تطورت في السنوات الأخيرة لتصبح أداة أوسع نطاقا وأكثر تطورا لسلطة الكرملين. فبدلا من مهمة وحيدة، اتسعت مهامها إلى عمليات مترابطة للقتال وكسب المال واستغلال النفوذ، كأداة منخفضة التكلفة بيد بوتين يمكنه التنصل من الارتباط بها بسهولة. وهو ما حدث عندما اتهمت عدة أطراف روسيا بالمشاركة في حماية نظام عمر البشير، وما تناقلته وسائل الإعلام الدولية يشأن طبيعة عمل الشركات الأمنية الروسية في السودان، حيث نفت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زخروفا كل تلك الاتهامات، وإشارت إلى أن الشركات الأمنية في السودان هي شركات خاصة غير مرتبطة بالحكومة الروسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق