كانت تلك المرة الثالثة يتدخل الجيش بكامل تشكيله في الشأن السياسي في السودان، تلك هي الملاحظة الأولى حول المذكرة التي رفعتها قيادة القوات المسلحة السودانية للقيادة السياسية إبان فترة الديمقراطية الثالثة. كانت المرة الأولى عندما استلمت قيادة الجيش الحكم من القيادة السياسية للديمقراطية الأولى التي أعقبت الإستقلال في العام 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود، لتدشن أول عهد لحكم عسكري في السودان بعد الإستقلال، وجاءت المرة الثانية عندما انحازت القوات المسلحة للانتفاضة الشعبية في أبريل 1985. أما الثالثة، والتي نحن بصددها الآن، فقد جاءت في ظرف سياسي مختلف حين تقدمت قيادة القوات المسلحة بمذكرة ضافية اشتملت على إحدى وعشرين نقطة موجهة للسيد رئيس وأعضاء مجلس رأس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة وللسيد رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الدفاع الوطني في صباح يوم 20 فبراير 1989.
ما بين النقطة الأولى في المذكرة التي شددت على ما جاء في دستور السودان الانتقالي لسنة 1985 بأن قوات الشعب المسلحة جزء لا يتجزأ من الشعب مهمتها حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها وحماية أهداف ومكتسبات ثورة رجب الشعبية كما جاء في المادة 15 منه، والنقطة الحادية والعشرين والأخيرة التي أمهلت الجهاز السياسي أسبوعاً واحداً لإتخاذ الإجراءات اللازمة بصدد القضايا التي طرحتها، واقع كشف عن عمق الأزمة السياسية المستفحلة وعدم القدرة على التصدي لها بالقدر المطلوب، وضعف جعل الجيش يجأر بالشكوى وهو يتلقى الضربة تلو الأخرى من الجيش الشعبي لتحرير السودان وحصار اقتصادي عالمي خنق كل المنافذ لشهيق يعبئ صدر السلطة بأكسجين استمرار الحياة، وهي للغرابة سلطة في ظل نظام ديمقراطي.
الملاحظة الأهم أن المذكرة خاطبت القيادة العليا للدولة مباشرة ولم تتجاوز ذلك بحياكة مؤامرة ليلية للقضاء عليها كما يحدث في الانقلابات العسكرية، وهي بهذا النهج الذي اختطته والموضوعات التي طرحتها جاءت داعمة لمسيرة النظام الديمقراطي مؤكدة في صراحة أن ما يجري في الساحة السياسية قد يؤدي إلى إنفلات يقود إلى تهديد وحدة تراب البلاد وتفتيت الأمة السودانية ومسارها الديمقراطي الذي ارتضاه الشعب وضمنه في مواثيقه ودستوره كخيار لا بديل له.
إنطلقت مذكرة الجيش من قاعدة عسكرية في مظهرها لتحيط بكل الشأن السياسي وملحقاته وتداعيات المشهد الاقتصادي وتأثيراته. فجاءت بتسعة بنودها الأولى مخترقة تناقص قدراته التي وصلت إلى نسبة 50% مما كانت عليه في العام 1983 لتكشف بعداً استراتيجياً "جديداً وفريداً" لم يشهده عالمنا المعاصر، وذلك البعد هو "توحد المعسكران الشرقي والغربي في دعم وإسناد حركة التمرد التي نواجهها". فالكتلة الشرقية توفر متطلبات القتال والتدريب والتوجيه للحركة، بينما يوظف العالم الغربي كل إمكانيات المادية والإعلامية لخدمة أهدافها، وترهيبه لكل الدول العربية المعتدلة حتى لا تجود على الجيش السوداني بالقليل من احتياجاته الدفاعية.
على صعيد الجبهة الداخلية وقفت المذكرة على جانبين من تأثيراتها، أولها على الأمن القومي السوداني حيث حددت أخطر مهددات الأمن القومي السودان في ست نقاط هي، التناحر الحزبي وغياب التوجه القومي، الانهيار الاقتصادي والتضخم والغلاء، نمو المليشيات المسلحة والاختلال الأمني، إفرازات الحرب في الجنوب، تفكك المجتمع السوداني وانتشار الفساد ثم إفرازات الصراع المسلح الدائر في دارفور. بينما حددت تأثيراتها على القوات المسلحة في ثلاث نقاط هي إنهيار البنيات الأساسية والاقتصاد والمجتمع وتأثيره المباشر على القوات المسلحة وتركيبتها القومية، المحاولات المستمرة لاختراق القوات المسلحة من جهات سياسية في الداخل وبتوجيه من الخارج وأخيراً انقسام الجبهة الداخلية في إسناد ودعم القوات المسلحة وإفرازات ذلك واضحة على أمن العمليات وتأثير الحرب النفسية على الروح المعنوية.
خلصت المذكرة إلى أن "ما يشهده السودان على صعيد جيهته الداخلية مؤشر واضح لخطر داهم على مستقبل الوطن، أمنه ووحدته وحق شعبه الكريم في مستقبل مشرق." كما خلصت إلى تقييم الموقف العسكري "بأن هناك مؤشرات واضحة لإمكانية حدوث اختلال في ميزان القوى" لصالح قوات الجيش الشعبي نتيجة الدعم الكبير الذي تحصل عليه.
ثم جاءت التوصيات في ثلاث نقاط هي:
1. إن إدارة الصراع المسلح لا ينفصل أبداً عن إدارة السياسات المتوازنة للدولة، عليه يجب أن تهدف الدولة إلى كسر طوق الحصار الاقتصادي والعسكرية المفروض علينا من الغرب والشرق، وذلك بانتهاج سياسات متوازنة تمكننا من كسب احترام العالم لديمقراطيتنا المرشدة، وتمكننا من استقطاب العون الاقتصادي والعون العسكري الذ نحتاج إليه اليوم.
2. إن تماسك ووحدة الجبهة الداخلية يتطلب تطبيق توجه قومي بعيداً عن المزايدات السياسية والتناحر والتآمر، وهذا يتطلب في المقام الأول توسيع قاعدة المشاركة في الحكم للخروج من هذا المنعطف الصعب.
3. إن القوات المسلحة لم تهزم أبدا، ولن تهزم مطلقاً بإذن الله وستستمر في إداء دورها الوطني الرائد في تضحية ونكران ذات، لذلك يجب على الدولة أن تنتهج نهجاً سليماً في سياساتها الداخلية والخارجية بما يمكن القوات المسلحة من أداء مهامها الدستورية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق