القول بأن الكسندر سرغييفتش بوشكين يمثل حداً فاصلاً في تاريخ الأدب الروسي الكلاسيكي لا يجانب الحقيقة مطلقاً، فعصر الأدب الكلاسيكي هناك يؤرخ له بنصوص وأشعار الأديب الفذ بوشكين. صار مقياس وزن لكل الشعراء الذين جاءوا بعده، وحتى من سبقوه فكانوا ينسبون لعصره. حتى أساتذته شهدوا له بالنبوع والعبقرية قبل مجايليه ولاحقيه، ولعلهم وفقوا جميعهم فيما وصفوا به الشاعر بوشكين بأن ما يميزه هو عالميته، بل وذهب أحدهم إلى أنه "هدية مقدسة".
ربما يعود ذلك إلى الثراء والتنوع الإثني الذي شكل جيناته الوراثية فيما بعد، حيث تقول سيرته الإثنية إن أصوله من والدته تعود إلى أفريقيا، فإبراهام هانيبال القادم من أفريقيا هو جده الأكبر لأمه، ولا يزال يدور لغط بين الباحثين إذا ما كان أبراهام قدم من إثيوبيا أم من الكاميرون. لكن ما هو ثابت إنه قدم إلى القسطنطينية العاصمة العثمانية في مطلع القرن الثامن عشر، وبعد عامين تم بيعه إلى تجار روس إلى أن وصل قصر القيصر الذي اهتم به وبتعليمه وصار مهندس الامبراطور. ولد ونشأ بوشكين وسط مجتمعات النبلاء والأثرياء وطقس مفعم بالجليد والبرودة، بل كان واحداً منهم أبان حكم القياصرة. لكنه ظل متمرداً دوماً على المؤسسة الملكية وتواقاً للحرية مما اضطر القيصر إلى نفيه ورميه في اتون الحروب التي كانت تخوضها روسيا في الجنوب في مناطق القوقاز والشيشان وغيرها، مما أثرى وجدانه الشعري.
إلى جانب إهتماماته المتعددة وانفتاحه على شعوب العالم وتراثه الأدبي، إهتم بوشكين اهتماماً خاصاً بالقرآن الكريم والسيرة النبوية، وتسلل ذلك إلى مفردات ومعاني وموضوعات قصائده التي جمعت فيما بعد مع غيرها من موضوعات شرقية وسميت ب"القصائد الشرقية". لعله من نافلة القول إن اهتمام الشعراء العرب قدمائهم ومحدثيهم وتأثر مفرداتهم وصورهم الشعرية بالقرآن والسيرة طبيعياً، فهم نشأوا وتشرب وجدانهم، شاءوا أم رفضوا، بهذا الواقع الذي ولدوا وسطه، لكن أن يتأثر شعراء من مناطق الصقيع في أقصى الشمال سواء في روسيا وفي مقدمتهم بوشكين أو "إيفان بونين" أو في ألمانيا مثل "غوته"، فهذا يستدعي بحث أعمق وإلمام أشمل بالمحيط الذي عاشوا وسطه.
لعل واحدة من قصائد بوشكين في هذا المجال تكشف مدى تأثره ذلك هي "قبسات من القرآن" التي ترجمها د. طارق مريود ويقول فيها:
أقسم بالشفع وبالوتر
أقسم بالسيف وبالحرب المحقة
أقسم بنجمة الصباح
أفسم بصلاة المساء
لا، انا لم أهجرك (لم أودعك)
وهو في ذلك يستلهم آيات من سورة "الضحى" "وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى"
من ترى في ظل الطمأنينة
أدخلت، محباً شخصه،
وحميت من العسف المبين؟
ألست أنا يوم السغب
من سقاك مياهاً صحراوية؟
ألست من أعطى لسانك
سلطاناً عظيماً على العقول؟
تشجع وأهجر الباطل
اتبع بشجاعة طريق الحق
أحب اليتامى وقرآني
عظ مرتعشاً الخلق.
ويتجلى تأثر بوشكين بصورة واضحة بالقرآن في تلك الشرقيات حين يستلهم قول الله تعالى "عَبَسَ وَتَوَلَّى،أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى،أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى"
يقول بوشكين في قصيدته:
متكدراً تجهم النبي
مستمعاً للضرير عن قرب
توليت، وهو لم يقرب رزيلة
إن هذا ليجعله بحيرة
أعطيت من الكتاب السماوي
يا نبي سجلاً، وليس للمتمردين (الخارجين)
أقم القرآن في سكون
غير داع الكافرين (وفي ترجمة أخرى) دون أن تجبر الكفار.
لعل عالمية بوشكين هي ما جعلت فيدور دستييفسكي يكتب عن مقدرته على الاستجابة لكل ما هو عالمي (كما جاء في ترجمة كتاب القصائد الشرقية) فيقول: "بوشكين وحده من بين كل شعراء العالم يملك خاصية التقمص كلياً في قومية غريبة، ها هي "الفارس البخيل" والأغنية الشعبية "عاش في الدنيا فارس فقير"، إقرأ "دون جواب" فلو لم يكن هناك توقيع بوشكين لما عرفتم أبداً إن من كتب هذه ليس اسبانياً. أية نماذج عميقة رائعة في قصيدة "وليمة في زمن الطاعون"، ألا تسمع في هذه النماذج الرائعة العبقرية الانجليزية ...، هذه "قبسات من القرآن" أليس هناك مسلم، أليست هي نفس روح القرآن وسيفه، ومهابة العقائد البسيطة وقوتها العنيفة..؟ أقول على الإطلاق، أبداً لم يوجد شاعر يمثل هذه الاستجابة العالمية مثل بوشكين، وليس في الاستجابة وحدها يكمن الأمر وإنما في عمقها المدهش، في تقمص روحه في روح الشعوب الغريبة تقمصاً كاملاً تقريباً، في روعتها، لأنه ليس في أي مكان ولدى كل شعراء العالم لم تتكرر مثل هذه الظاهرة".
لكن كثيراً ما تفسد الترجمة تلك الروح التي تضفيها اللغة على الشعر والنصوص عموماً، فبوشكين قرأ القرآن عن ترجمات بعضها رديء، وحتى عندما حاول الآخرون ترجمة شعره كان من الطبيعي أن يفقدوه عذرية اللغة التي كتب بها، ولكن المقام ليس مقام نقد وغوص في بحوره بقدر ما وقوف على مدى تأثر بعض الشعراء ومن بينهم شاعر عظيم مثل بوشكين بالقرآن والسيرة النبوية.
فها هو بوشكين يجاري آيات من القرآن وكأنك تقرأ في شعره مدى استفادته من قول الله تعالى في سورة البقرة "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فآت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين"
فيكتب بوشكين:
قديماً، يا قدير، توهم
جبار أن يباريك
بجنون، مليئاً بالغرور،
ولكنك يا رب طوعته
أنت قلت: أنا أهب الدنيا الحياة
وأعاقب الأرض بالموت
على الجميع راحتي مرفوعة.
أنا كذلك، قال هو، أمنح الحياة
وأعاقب بالموت أيضاً:
معك يارب أنا متساوٍ.
ولكن إنطفأ زهو العار
من كلمات غضبك:
أنا أرفع الشمس من المشرق
من المغرب فلترفعها أنت!
تقول بعض السير أن بوشكين قرأ القرآن مترجماً عن فيريفكين، قد أالذي سمى ترجمته "قرآن محمد العربي الذي ادّعى في القرن السادس أنه أُنزل إليه، وأعلن نفسه آخر أنبياء الله وأعظمهم".
رغم تأثره بتلك الترجمة ونهله من ذلك الكتاب، لكن بوشكين لم يتأثر بالعنوان الذي اختاره المترجم للكتاب ولا للمحلق الذي جاء بعنوان "سيرة المتنبئ الكذاب محمد"، فتجاوز بوشكين كل ذلك معتبراً "أن المتكلم في القرآن باللغة العربية هو الله وأن محمداً إنما هو شخص مخاطب". وحفزته تلك الترجمة لكتابة قبسات من القرآن، التي تناول فيها العديد من القيم فهو يرى أن "الكثير من القيم الأخلاقية موجزة في القرآن في قوة وشاعرية".
لكنه كان يعتبر الشاعر مثل النبي، له رسالة يؤديها وهذا ربما كان أحد أسباب إهتمامه بما حوله من ثقافات، وتلك العالمية التي تسم كتاباته كما وصفها الكثيرون. لذلك جاءت قصيدته النبي من أجود اشعاره:
أرسل الرب صوتاً إلي:
"إنهض يا نبي، أنظر واستمع
لب إرادتي
وجب البحار والأرض
ألهب بصوتك قلوب الناس".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق