أكثر طرفة ناسبت حملة مقاطعة انتخابات العام 2015 التي روجت لها المعارضة في ذلك الوقت تحت شعار "إرحل"، تزامنت مع بدء الترويج لتلك الحملة قبل انطلاقها فعلياً مع إنتقال المكاتب الرئاسية من القصر الجمهوري القديم إلى القصر الرئاسي الجديد، إذ زعم مطلق الطرفة أن الرئيس المخلوع عمر البشير قال ساخراً من فكرة الحملة بعد انتقاله لمكتبه في القصر الجديد "أهو رحلنا".
ما بين شاعرنا السوداني التجاني سعيد والشاعر المصري فاروق جويدة بحر من الشعر الذي يغرق متلقيه في لججه وهو في غاية الرضا وقمة الإشباع. رغم ذلك تأتي مفردة "إرحل" كقاسم مشترك بين قصيدتين لهما، مختلفة الدلالات، أشبه باختلاف دلالات حملة المعارضة وسخرية الرئيس.
يختار التجاني سعيد قرار رحيله بنفسه في قصيدته الرائعة، التي تغنى بها فنان السودان وأفريقيا الراحل محمد وردي. وعلى خلاف جويدة لا يطالب سعيد أحداً بالرحيل وإنما هو نفسه من يختار الرحيل وينطلق سائقاً خطواته بحثاً عن حب آخر متطلعاً لقيمة أساسية في الحب هي الوفاء، بعد أن نسي (زوله) الإلفة:
قلت ارحل
أسوق خطواتى من زولاً نسى الالفه
أفتش ريداً بعد ريدك
عشان يمكن يكون أوفى.
إذا كانت "ارحل" عند التجاني سعيد تمثل حالة عتق تعقبها رغبة في العودة للحبيبة أو الوطن، فإن "إرحل" عند فاروق جويدة تكثف الحالة السياسية في مصر نهاية حكم حسني مبارك، وتحمل بين جنباتها رغبة شعبية اجتاحت الميادين تطالب برحيله، وهي ليست قرار بل مطلب شعبي. وهو في مفتتح قصيدته يشير لحالة رحيل سبقته "حالة زين العابدين بن علي في تونس" وعلى غرارها يطالب ليس فقط برحيل الرئيس المصري، بل ومعه حزبه :
ارحل كزين العابدين وما نراه أضل منك
ارحل وحزبك في ...يديك
ارحل فمصر بشعبها وربوعها تدعو عليك
ارحل فإني ما أرى في الوطن فرداً واحداً يهفو إليك
أثناء رحيله وبين حركته وسكونه يتوه التجاني سعيد وتهفو نفسه للعودة بعد أن صارت كل الأرض بالنسبة له منفى. ومن بين ما يرى في عيني حبيبته، وهو يصف حاله في غربته بعد الرحيل الذي اختاره بنفسه:
زي عيداً غِشاني وفات .. وعاد عمّ البلد أعياد
وزي فرح البعيد العاد
وزى وطناً .. وكت اشتاقلو .. برحل ليهو من غير زاد
بدون عينيك بصبح زولاً بدون ذكرى وبدون ميلاد
الشاعر فاروق جويدة يمسك بجوهر مطلب الشعب بأن "إرحل" أيها الرئيس وحزبك، ويعدد أسبابه من هوان مصر بعد علوها ومظاهر الفقر والبطالة وهموم الناس بسبب الضيق الذي يعيشون فيه والترف الذي يعيشه حزب السلطة وثراؤه من دما الكادحين، ولا مجال للاعتذار، فلمن ومن يعتذر بعد كل هذا، وقناعة مكتملة الأركان بأن لا فائدة من بقائه:
لا شيء يبكي في رحيلك..
رغم أن الناس تبكي عادة عند الرحيلْ
لا شيء يبدو في وجودك نافعاً
فلا غناء ولا حياة ولا صهيل..
مع اختلاف الدلالات إلا أن كلمة أو مفردة "إرحل" في قصيدتي التجاني سعيد وفاروق جويدة قدمت حيثياتها في حالتي الحب والسياسة، وحشدت صورها البديعة لتخرج كل قصيدة منها تحمل معنى مختلفاً بطعم الرحيل، فالأول يرحل برغبته وهو رحيل يحمل بين طياته عودة مرتقبة والآخر يحمِّل دلالاتها مطلب شعبي بكل حيثياته.
وكما يقول أهلنا في البادية "الرحول عز العرب"، فهم رغم الغنى الذي يعيشون فيه والماشية والتي يملكونها لا يتوقون إلى الاستقرار ويرون في الرحول عز لا يضاهيه عز آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق