ظلت الهشاشة التنظيمية سمة ملازمة لمجمل المشهد السياسي السوداني منذ نشوء وخلال مسيرة تطور الأحزاب والمنظمات السياسية منذ ما قبل الاستقلال وإلى اللحظة الراهنة. لن يجد المتتبع لتلك المسيرة كبير عناء في الوقوف على هذه الحقيقة، وأن يعزو بؤس المشهد السياسي الحالي إلى هذا الإرث المتراكم من تلك الهشاشة. أبرز تجليات هذه الهشاشة هو حالة التشظي الأمبيبي الذي ظلت تشهده الأحزاب السياسية والحركات المسلحة، وانعكس ذلك بشكل اكثر سطوعاً في التحالفات السياسية مما حول المشهد السياسي السوداني إلى مسرح عبث مفتوح.
من أهم سمات مسرح العبث، الذي جسدته مؤلفات لمسرحيين بارزين على الصعيد العالمي من أمثال صمويل بيكيت ومسرحيته في انتظار جودو وغيره، هو تحرره من البناء التقليدي للمسرح، إذ لا يهتم بالبداية ولا العقدة ولا النهاية، بل هو يمكن أن يكون متعدد العقد ويصل بالمشاهد إلى عدة ذروات دون أن يقدم حلاً لعقدة واحدة منها. الصراع فيه فاقد لعنصر الزمن فلا يمكن للمشاهد الإمساك ببداية او نهاية لعدم وجود حبكة ولا أفكار متسقة ولا حوار منطقي، لذلك استحق أن يطلق عليه مسرح اللا معقول.
تشظي الأحزاب
مسرح اللا معقول السياسي في السودان يتجلى أكثر في التحالفات السياسية. وقبل الخوض في التنقيب عن مظاهر العبث هذه لابد أن نلقي نظرة على الأحزاب والمنظمات السياسية نفسها، سواء تلك التي انتهجت العمل الجماهيري المدني أو تلك التي حملت السلاح كوسيلة لبلوغ غايات سياسية. ربما هذه النظرة تكشف كثافة الظلال التي تلقيها الهشاشة التنظيمية على مشهد تلك التحالفات.
هل المسألة تحتاج لعناء البحث وراءها أو لنظرة تحتاج للغوص عميقاً؟ لا أعتقد. يكفي مشهد تشظي الأحزاب التاريخية الكبيرة أثناء مسيرتها السياسية منذ نشأتها، يكفي مشهد جماعة الأخوان المسلمين، يكفي مشهد الأحزاب العقايدية اليسارية، يكفي مشهد الحركات المسلحة الحالية ابتداءً من الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال وإلى بقية الحركات الدارفورية التي شهدت تناسلاً متزايداً منذ إنطلاقتها الأولى ولا يزال العرض مستمراً. بل يكفي هذا العدد من اللافتات الحزبية أياً كان موضعها من الإعراب السياسي ليضع المرء أصبعه على تلك الحقيقة.
يمكن تعداد عدة أسباب لهذا التشظي الذي يعتري المشهد الحزبي، منها طبيعة جذور الشخصية السودانية التي لا تحتمل التأطير داخل قالب مغلق ولا الانقياد إلاَّ داخل إطار سلطة تراتبية قاهرة، مثل المؤسسة العسكرية والقبلية. وهي طبيعة متجذرة في العقل الجمعي متأثرة بالطبيعة الاجتماعية ومدى سطوة الطائفة والقبيلة على بنية النظام الاجتماعي، فلا المؤسسة العسكرية ولا القبيلة بطبيعتها تحملان رؤى وأفكار ديناميكية خاضعة لشروط الصراع السياسي الحديث، لذلك قدرة الماعون التنظيمي على الضبط والانضباط تظل جامدة وقوية وقادرة على فرض السيطرة. على عكس ذلك، تأثر قيادات الأحزاب والمنظمات السياسية ومنتسبيها بهذه الطبيعة انعكس على قدرة المواعين التنظيمية في استيعاب أي صراع ينشأ داخل الحزب مما يؤدي في النهاية إلى هذا التشظي. ولأن الفكرة في تكوين ونشأة الأحزاب تسبق الآلية، ولأن الإفكار والرؤى والأهداف قابلة للتطور وللتحور وقادرة على الاستجابة للتغيرات التي تحدث حولها في وقت تظل فيه تلك المواعين جامدة وغير قادرة على مواكبة هذا التطور والتغير مما يؤدي إلى انفجارها وخروج كل من لا تسع تلك المواعين مدى استجابته للتطور ليشكلوا مواعينهم، فالمواعين الجامدة لا تستوعب سوى أفكار جامدة ومن يتمسكون بها، لكن ومن الطرائف إنها تكون بنفس المواصفات والمقاييس القديمة.
من تجليات مسرح العبث السوداني عودة الخارجين عن تلك المواعين التنظيمية وبمواعينهم الجديدة للجلوس مع رفقاء الأمس في تحالف أكبر. لكن هذا ليس مربط الفرس، وإنما المربط هو التحالف الأكبر الذي تتقاطر إليه الأحزاب والتنظيمات السياسية وقت الملمات لمواجهة السلطة الحاكمة. تجدر الإشارة هنا إلى أن دافع هذه الكتابة هو الاتفاق الذي أعلنه حزبان مؤخراً وهما الحزب الشيوعي السوداني وحزب البعث العربي الإشتراكي "الأصل"، وستبقى "الأصل" بين القوسين ولا تحتاج إلى تعليق، وهو ما سيمثل نموذجاً حياً لمدى عبثية التحالفات السياسية القائمة على مواقف تكتيكية قصيرة الأجل.
لن أعود بعيداً إلى أحداث تاريخية قديمة، بل رجعة قليلة جداً إلى الوراء تكفي لتكشف مدى عبثية تلك التحالفات التي ما أن توقع أطرافها على مواثيقها وبرامجها وأهدافها وتتفق على آليات تحقيقها، حتى يعود كل حزب متأبطاً نواياه الخاصة وقراءته التي تتفق ومصالحه لما وقع عليه.
التجمع الوطني
بعد اتفاقية السلام الشامل في 2005، وهو تاريخ قريب جداً، شيع التجمع الوطني الديمقراطي، كأقوى وأكبر وأطول تحالف سياسي سوداني، إلى مثواه الأخير بعد توقيعه اتفاق القاهرة وعودته بكامل عدته وعتاده للخرطوم التي سبقته إليها الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل د. جون قرنق. الظرف التاريخي الذي تشكل فيه التجمع الوطني الديمقراطي، وما صاحب تطوره إلى الوصول إلى مؤتمر القضايا المصيرية في أسمرا 1995، ساهم في تماسكه رغم كل التناقضات التي كانت تعتري مسيرته، إلى أن تفرق أيدي سبأ بعد اتفاق السلام الشامل. ساعد في ذلك طبيعة النظام الإسلامي الدكتاتوري الشمولي الحاكم الذي جاء على ظهر دبابة، وسياساته الداخلية القمعية وانتهاكاته لحقوق الإنسان وثم محاولته تصدير نموذجه إلى دول الجوار بالإضافة إلى إيوائه للخارجين على دولهم وأنظمتهم وجعل من البلاد بؤرة لتصدير الإرهاب والإرهابيين، مما دفع المجتمع الدولي للوقوف خلف التجمع ودعمه وفتحت له دول الجوار المتأذية من سياسات الخرطوم أبوابها مشرعة. فكان النظام الحاكم في الخرطوم وقتها هدفاً مشتركاً للجميع بسبب سياساته الاقصائية الدموية الإرهابية.
قوى الاجماع
إلتقى الحزب الشيوعي السوداني وحزب البعث العربي الإشتراكي "الأصل"، لا أذكر إن كان وقتها إسمه مقروناً بالأصل، داخل أروقة التجمع الوطني الديمقراطي، قبل أن ينفض سامره. وبعد أن كشف نظام الحركة الإسلامية عن حقيقته الشمولية الساعية لعرقلة الاتفاقيات التي وقعها مع كل الأطراف وقمعه للمعارضة ومنعه لنشاطاتها، بدأت تلك القوى تتجمع مرة اخرى فيما عرف بـ"قوى الاجماع الوطني". من طرائف العبث السياسي أن أول لقاء لتلك القوى كان في دار المؤتمر الشعبي، بقيادة رئيسه الراحل د. حسن الترابي، في الرياض وكان المؤتمر الشعبي حليفاً قوياً للمعارضة وهو الخارج لتوه من عباءة المؤتمر الوطني الذي أسسته الحركة الإسلامية بقيادة زعيمها د. حسن الترابي. وكان يجلس قادة الإجماع الوطني، الراحل نقد والراحل الصادق المهدي والراحل حسن الترابي إضافة إلى قيادات الأحزاب الأخرى، وكذلك ضم التحالف الحركة الشعبية لتحرير السودان الطرف الثاني في الحكم بعد الاتفاق، في مرحلة ما، حول طاولة واحدة يناقشون كيف يواجهون سلطة المؤتمر الوطني الحاكم. ألم أقل إنه مسرح العبث السياسي؟
إلتقى الشيوعي والبعث "الأصل" أيضاً داخل أروقة قوى الاجماع الوطني كفاعلين رئيسيين مؤثرين بحكم تجربتها الكبيرة في مواجهة ومقاومة الدكتاتوريات، وهو امر طبيعي يتسق ومعطيات الواقع السياسي.
كان المحك الرئيسي لهذا التحالف هو انتخابات 2010 التي حددها دستور 2005 المؤقت، فما أن دقت ساعة الجد وحانت لحظة المواجهة الجماعية لنظام الحركة الإسلامية ومؤتمرها الوطني وخوض الجميع لمعركة الانتخابات موحدين، والعمل الجماعي "حسب مواثيق التحالف الموقعة" لخوض أي معركة مجتمعين، ما حانت الساعة حتى تفرق الجميع وكل اتخذ موقفه منفرداً رغم الدعاوى التي جهرت بها بعض الأحزاب ومنها التحالف الوطني السوداني بخوض الانتخابات بمرشح رئاسي واحد، بل ذهب الكبار في موقف مثير للدهشة بمقاطعة الانتخابات بعد أنقضاء مراحل العملة الانتخابية الأولى وإنتهاء مهلة الانسحاب.
قوى الحرية والتغيير
إنتهى الأمر، وذهب الجنوب مستقلاً بإرادة أهله الذين صوتوا في الاستفتاء لصالح الانفصال، ونشأ واقع جديد وجرت مياه كثير تحت الجسر. خرج حزب الأمة القومي عن قوى الاجماع وخرجت أحزاب أخرى وكونت بعد ذلك ما عرف بـ"قوى نداء السودان" وضمت قوى نداء السودان فيما بعد الجبهة الثورية "قوى الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق سلام جوبا". وجاءت ديسمبر 2018 بعظمتها وتضحياتها لتجبر تلك القوى على تشكيل تحالف أكبر "تحالف قوى الحرية والتغيير".
مع التطورات اللاحقة بعد سقوط البشير وسيطرة اللجنة الأمنية لنظامه على الحكم، وبعد إعلانه عن حيثيات عديدة خرج الحزب الشيوعي عن قوى الحرية والتغيير أثناء حكومة الفترة الانتقالية الأولى، وخرج أيضاً من تحالف قوى الاجماع الوطني الذي ضمه وحزب البعث "الأصل. واستمر الأخير عضواً فاعلاً في الحرية والتغيير إلى أن خرج هو الآخر عن الحرية والتغيير مؤخراً بعد عام من انقلاب 25 أكتوبر.
وها هما يعودان الآن ليلتقيا ويتفقا على التنسيق والعمل المشترك خلال المرحلة الحالية وتنسيق الجهود لإنهاء الانقلاب، ليمثلا نموذج مسرح العبث واللا معقول السياسي السوداني الذي لا يهتم بالبداية ولا العقدة ولا النهاية، والصراع فيه فاقد لعنصر الزمن فلا يمكن للمشاهد الإمساك ببداية او نهاية لعدم وجود حبكة ولا أفكار متسقة. وتعود حليمة لعادتها القديمة في إحياء قوى الإجماع الوطني ثم الدخول في تحالفات أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية.
تفتقر التحالفات السياسية في السودان لأبسط قواعد المراجعات والنقد، وربما هذا عائد لطبيعة التنظيمات والأحزاب السياسية التي تناولتها في البداية. كما إنها تفتقد إلى قاعدة أساسية يتطلبها وضع السودان منذ الاستقلال وهي رؤية لقاعدة التأسيس الذي يضع البلاد في الإطار الدستوري والقانوني الدائم لها، وهذا يتطلب إنشاء التحالفات أولاً على برامج الحد الأعلى، أى أن تتحالف او تتوحد الأحزاب والتنظيمات السياسية ذات الرؤى المتقاربة والبرامج الواحدة تحت مظلة دائمة، وهي تحالفات استراتيجية، ومن ثم الدخول في تحالفات أوسع. هذه الخطوة ضرورية للسودان وللم شعث هذا التشظي. فلا يمكن لأحزاب غير قادرة على المحافظة على تماسكها ووحدتها أن تمضي بتحالف سياسي واسع يضم أطياف ورؤى مختلفة إلى نهاياته المرجوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق