إذا كانت القصة خرجت من معطف قوقل، لكنها لا تذكر إلاَّ ويذكر معها أنطون شيخوف كرائد للقصة القصيرة. وبالرغم مما كتبه من نصوص مسرحية تركت أثرها على خشبات المسارح مثل "بستان الكرز"، إلا أن قصة من تلك التي لا تتجاوز صفحة واحدة تكاد توازي عملاً مسرحياً من ثلاثة فصول.
فقصة مثل "موت موظف" التي بالكاد يتجاوز نصها الصفحة الواحدة، ستفقع مرارتك ضحكاً بدلاً من البكاء، وتجعلك في ذات الوقت تنقلب على قفاك بكاءاً بدلاً من الضحك، وأنت تتابع تلك "العطسة" التي خرجت لا إرادياً من أن ذلك الموظف لتسقط على "قفا" الجنرال الذي يجلس أمامه، وتصل بك إلى أن يموت الموظف من الذل والبؤس محاولاً الاعتذار له دون جدوى. ودون جدوى هذه ليس لأن الجنرال لم يقبل اعتذاره، بل هو لم يعر الأمر التفاتاُ أصلاً.
أو تلك القصة التي وجدت ترجمتين لها تحت عنوانين مختلفين، الأول "الحرباء" في إشارة لتلون الشخصية الرئيسية حسب مقتضيات الظروف، والثاني هو "الكلب" الذي اعتبره المترجم هو الشخصية الرئيسية في القصة. وتبدأ القصة بمشهد أول عندما يدخل العريف "أخميلوف" باحة السوق يتبعه شرطي يحمل ما صادراه من فاكهة أثناء جولتهما في السوق. فجأة وفي غمرة الصمت الذي خيم على الأرجاء تنطلق صرخة رجل وكلب ينبح ويتجمع الناس إثر ذلك.
يعلق العريف "آخميلوف" مخاطباً الشرطي الذي يرافقه "أتعتقد أنه من الضروري توجيه اللوم والتوبيخ لتجمع غير مسموح به كهذا؟" لتبدأ رحلة البحث عن صاحب الكلب عندما يتساءل العريف عن صاحبه وهو يستمع إلى شكاية المواطن "كريوكن" المتضرر من عضة الكلب. ويطلب العريف من الشرطي التحري عمن هو صاحب الكلب متوعداً من يتركون كلابهم طليقة كما تشاء بالعقاب الصارم، إلى أن يأتيه صوت من بين الجموع المحتشدة "يبدو انه كلب الجنرال بيجالوف". هنا يرتبك العريف ويشعر بالحر ويكاد يجزم أنها ستمطر اليوم، ثم يتوجه مخاطباً الضحية "يوجد ثمة شيء لا أفهمه كيف عضك هذا الكلب؟ وكيف طال أصبعك بينما هو كلب صغير وأنت رجل كبير. ثم يدعم كلامه الشرطي المرافق له "أطفأ السيجارة في وجه الكلب لكن الكلب ليس غبياً فعضَّه، يا سيدي".
وسط احتجاجات شديدة أطلقها الرجل الضحية مطالباً باللجوء إلى القانون "الذي يؤكد سواسية الجميع في هذا العهد"، يذهب الشرطي، وهو يتأمل الكلب مليِّاً، إلى أن هذا ليس بكلب الجنرال، فكلابه غالية الثمن، أما هذا الكلب لو كان في بطرسبورنج أو موسكو مثل هذه الكلاب هل تخمن ما يحدث ؟ لن يجهدوا أنفسهم في البحث في فقرات القانون للتخلص منها، بل يصنعون لها نهاية سريعة. وتتتابع المشاهد ليحسم الأمر طباخ الجنرال الذي كان ماراً بالصدفة ليؤكد أن الكلب ليس للجنرال وإنما لشقيقه الذي يزور المدينة هذه الأيام.
كان رد العريف "آخميلوف" عندما علم أن الكلب ليس للجنرال وإنما لأخوه الزائر:
"هكذا إذاً أخوه فلاديمير إيفانوفيتش وصل هنا! حسناً حسناً أنا مسرور جداً خذه! يا له من كلب صغير وبارع –ويخاطب الكلب- لماذا ترتجف أيها الكلب الصغير.. لم تفعل شيئاً يستحق الخوف؛ وهذا الرجل وغد حقير. ثم يتوجه آخميلوف بتهديداته للرجل الضحية "كريوكين".
القصة على طرافتها تحكي فاجعة كبرى، وهي أن الناس ليسو بسواسية أمام القانون كما نزعم دائماً، وأن تلك المقولة دائماً ما يهزمها الواقع والحقيقة. يمكن للقارئ أن يتأمل حوله ليكتشف ذلك بسهولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق