قبل حلول منتصف ليل العاشر من مارس نبهني إشعار إلى رسالة في "الماسنجر"، وجدت رسالة رقيقة من أستاذنا الكبير نور الدين مدني يهنئني بعيد ميلادي. ولأنه يعيش في أطراف الكرة الأرضية شرقاً فقد أدركه يوم مولدي هناك قبل ثماني ساعات بحسابات فروق الوقت. فاستيقظت اليوم على حقيقة أنني بلغت الستين من عمري. يااااا ألله.. ستين عاماً عشتها هكذا طولاً وعرضاً في هذه الحياة، عشت خلالها طفلاً بدءاً من صرختي الأولى وها أنا أحبو ثم أحاول خطواتي الأولى فأتعثر مرة ثم أستقيم على جادة الدرب إلى أن تعلمت المشي على قدمي لأهرب من أمي ثم أعود إلى حضنها في كل مرة. لم أنتبه إلاَّ الآن وأنا أكتب، إن الطفولة هي عنوان مسيرة الحياة إن كتب الله لك أن تعيش ستين عاماً "تولد.. تصرخ.. تحتمي بحضن أمك.. تتمرد عليها بعد أن تكتشف ما حولك.. تهرب زحفاً على بطنك ثم على ركبتيك قبل أن تقف على قدميك لتنطلق إلى رحلتك الكبرى وتتعلم منها كلما تعثرت أثناء مسيرتك في أنك قادر على النهوض مرة أخرى والإستمرار".
عشت خلالها صبياً تتنازعني أحاسيس شتى تغلب عليها روح التمرد، التمرد على تلك القيود من حولي التي تكبلني. راودتني أثناءها كل نزوات المراهقة؛ أن تكون من المميزين وسط أقرانك، مملوء بالرغبة في إنجاز كل مهاما المرحلة بنزعاتها المتناقضة، مميزاً في الدراسة.. لاعباً في الفريق الأول لكرة القدم بالمدرسة وفي كرة السلة والطائرة في مراحل لاحقة، أن تستغل مهاراتك في الرسم والخط لتشارك مع نخبة من أقرانك في إصدار صحيفة حائطية ويلازمك ذلك الشغف في كل مراحلك الدراسية فيما بعد.
تتنازعك مشاعر الوجد والحب والشوق لبنت الجيران أو لفتاة اعتادت ان تعترض طريقك إلى المدرسة كل يوم، وكنت تتعمد توقيت خروجك لكي لا تفوت فرصة أن تراها بزيها المدرسي مرة أخضر وفي مرحلة بني غامق وأخرى باللون "اللبني"، فتيات مختلفات لكن تلك الابتسامة واحدة والنظرة التي تلهب حواسك واحدة. وتتملكك تلك الرغبات الجنسية العارمة، أن تخفي مشاعرك وتلك الأحلام في يقظتك تظهرها فتظل تطاردك إلى أن تزورك أثناء ليلة شتوية بالغة البرودة وأنت مستغرق في نومك "بت إبليس" لتستيقظ مملوءاً بالفخر والاشمئزاز في آن معاً، وتصدمك حقيقة أن عليك الاستحمام قبل أن تبدأ رحلتك اليومية المعتادة وتغسل ملابسك الداخلية أثناء الاستحمام حتى لا تكتشف أمك الأمر حين تجمع ملابسنا كل أسبوع.
عشت خلالها شاباً متعلقة بأطرافه رغبات الصبا وجنوحه وتلامس أصابع يديه آفاق مرحلة عمر النبوة. مارست فيها حياتي كأني أعيش أبداً، لم تمت في داخلي حالة التمرد التي لازمتني منذ الطفولة. أقضي أوقاتي مستمتعاً بملذاتتها دون أن يطرف لي جفن، وأعود إلى حضن الله ساجداً حتى أغيب عن وعي الدنيا لأدخل في حيوات التجلي الوجداني فتسمو روحي عالية في سموات لا يطالها إلا من كلن الله قريب منه. وأعود لحالي مسترشداً بأبيات من الدوبيت لطالما سمعتها من جدي أبو القاسم عبد الرحمن "الوسيم" حين تبلغ به النشوة ذروتها "كل ما أقول أتوب إبليس يلملم ناسو .. يقول لي ما تتوب .. التابو قبلك خاسو"، ثم ألعن إبليس وأعود إلى الصراط المستقيم دون أن يداخلني شك في رحمة الله التي وسعت كل شيء.
البعض كان يعتقدني من زمرة الأولياء الصالحين وآخرون يعتقدون أنني زنديق فاسق وهناك من يراني شخصاً هاديء الطبع قليل الكلام ولا يدرون أن دواخللي تمور وتغلي وتضرب الفوضى بأطنابها. لكنني، على ما أظن، كنت إنساناً كامل الدسم. هكذا مضت بي رحلة الشباب دون توقف متأرجاً بين تمرد الصبا والنزوع إلى الفوضي وبين التطلع إلى عقلنة مسيرة الحياة كلما تقدمت في السن نحو عمر النبوة، كما يراها من حولي ويرغبون في أن أتمثلها مثل ما يشتهون.
ستون عاماً تعلمت فيها الكثير المثير ولم أتعلم شيئاً، أصبت فيها نجاحات كثيرة وتعلمت دروس مفيدة من إخفاقات أكثر. صادقت فيها اشخاص لا يزالون في موضع القلب وعرفت فيها الكثير من خلق الله رجالاً ونساء شيباً وشبابا. ولكن أن تبلغ ستين عاماً من عمرك هذا شيء غالباً ما يحدث مرة في العمر، لن تتكرر ستون عاماً من عمرك مرة أخرى إلا إذا كنت من زمرة من "يردون إلى أرزل العمر". من الممكن أن تعيش ثلاثين عاماً مرتين أو ربما ثلاث مرات، ومن المحتمل أن تعيش أربعين عاماً مرتين وحتى الخمسين عاماً من الممكن أن تتكرر مرة أخرى بأن تبلغ المائة عام. ولكن قبل ذلك الأعمار بيد الله.
ما سأكتبه ليس مذكرات فأنا لست بذلك الشخص الذي لعب دوراً مهماً في تاريخ البشرية ولا على مستوى الوطن، ولم أكن في موقع مسؤولية هامة تستدعي أن أكتب مذكرات ليستفيد منها الناس وأسجل نظرتي لأحداث مهمة كنت طرفاً فيها. نعم هي ليست مذكرات ولكنها كتابة عن ستين عاماً عشتها في هذه الدنيا، من الممكن أن ترى فيها الحقيقة وكثير من الخيال، سأكتب عن ما عشته وما تخيلته كإنسان قدرت له الظروف أن يرى الكثير ويسمع الكثير ويقرأ الكثير ويتخيل الكثير أيضاً. ربما ساعد في ذلك أنني من أسرة عادية جداً جلعتني ظروف عمل والدي أن أتنقل بين أطراف السودان الأربعة شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً، ومن طرائف أسرتنا الصغيرة أننا إلى جانب أبي والمرحومة والدتي ستة أفراد، ثلاثة أخوة وثلاث وأخوات، ولدت أنا أكبرهم في مدينة الخرطوم وفي سنترها، بينما ولد شقيقي شرف الدين الذي يليني في بلدة المحمية حيث جذورنا وأصلنا الثابت ، وسمته جدتي على إسم الشيخ شرف الدين من تلك النواحي أما شقيقتي أماني فولدت في مدينة ود مدني وشقيقي الذي يليها عاصم مولود بمدينة القضارف بينما ولدت شقيقتي، ربنا يتولاها برحمته في مدينة كسلا وأصغر الأخوات سلمى ولدت في مدينة جبيت بالبحر الأحمر، وكنت من عشاق الأستاذ الفنان عبد الكريم الكابلي ومأخوذ بأغنيته "سلمى" وأعيش حزن كلماتها وهو يبكيها شعرا وأنا يجري مدمعي دون أن يتساقط من مقلتي. وكنت حينها في عمر لا يسمح فيه بمشاورتي في مثل هذه الأمور، ولكنني "زلقتها هكذا في حضور والدي بعد ولادتها وقلت إن إسمها سلمى، فإذا بها تسمى هكذا.
كنت قبل عام فكرت في الاحتفاء بعامي الستين بطريقة مختلفة، إذ بدأت منذ بداية العام السابق في كتابة رواية، أنهيت مسودتها وتحتاج لعمل كثير حتى تخرج بصورتها النهائية، وسميتها "شارع الستين" تتناول أحداث الثورة وبلوغي سن الستين، سأظل أعمل عليها حتى تخرج بثوب يليق بعظمة ثورة ديسمبر وبرغبتي في احتفاء مغاير لبلوغي هذا العمر. ولأنها لم تكتمل بعد فإذا برسالة أستاذي نور الدين مدني تحفزني لهذه الكتابة لتنشيط الذاكرة، وسأبدأها بمادة سبق أن كتبتها قبل أعوام ولكنها تمثل مدخلاً لطبيعة ما سأتناوله في "حواش وتضاعيف الذاكرة"
حاشية أولى
كانت أمي حاملاً بي عندما قررت مصلحة سكك حديد السودان نقل أبي من محطة وادي حلفا إلى الخرطوم مرة أخرى. شيء عجيب كان يحدث أثناء أول رحلة لي بالقطار، خاصة وأن صرير عجلاته مع القضبان الحديدية يخترق شرايين أمي ويقتحم على موطني، داخل رحمها، حيث ذلك الهدوء المخيم. وما بين المشيمة والحبل السري يبدأ إيقاع رحلتي المتلازم مع ذلك الإيقاع المثير لعجلات القطار، وكأنه يقول لي " أخرج .. أخرج .. أخرج .. أخر ......". وفي مرات يتواتر إلي أمره "أضربها .. أضربها .. أضرب ......."، ليذهب الأمر إلى مفاصل قدمي الواهنتين الذين يبدآن في محاولة التخلص من ذلك الوضع المتكور لترتطم قدمي اليسرى (لا أدري لم اخترت اليسرى) برحم أمي. أحس بأني أكثر ارتياحاً، ويعود دمي في رحلة العودة إلى قلبها وينعم بالأوكسجين ليجده أكثر انتفاضاً، شيء أشبه بالإبتسامة يرتسم على تقاطيع وجهي غير المتماسكة "ربما راودها إحساس بأنني أفكر في الخروج الآن". معها حق أن يصيبها الرعب إن حدث ذلك، فأنا أول عناقيدها وفي القطار كمان!! وربما رمت أبي بنظرة فيها كثير من اللوم لأنه لم يرسلها إلى أهلها في وقت مبكر. أضربها مرة أخرى بقدمي اليسرى وأقرقر في خبث. "هل وقفت؟؟" فوضعي صار أكثر تمدداً لحظتها.
ينتاب التوتر بعض من أجزائي الآن، ويسبح خيالي مع دمي "لابد أن أبي يقرأ مسرحية لآرثر ميلر، هل هي (كلهم أبنائي)؟" تنتفض خلاياي عندما يقرأ أبي بجوار أمي. أعلم أنه يقرأ لكاتب ما، ولكن ذلك الصدر النافر عندما يتقافز أمام قدراتي الاستيعابية ألمح فوراً مارلين مونرو، فلابد أنه يقرأ لآرثر ميلر. رغم أن مسكني الحالي معتم إلاَّ أن فضائي مبيض يحاول أن يتقاطع مع الظلمة، ربما لأن القطار يستمد طاقته من الفحم الحجري، ولكنه يفرز دخاناً أبيضاً يمتد كتلة أسطوانية إلى الخلف حتى يتلاشى أخره مع نهاية عربات القطار (هل لا زالت في ذاكرتنا أغنية من بف نفسك يا القطار!!)، أو لأن وقتها لم تكن مارلين بنت مونرو تصور أفلامها بالألوان. أما عندما كان أبي يقرأ رواية "كيف سقينا الفولاذ"، وكنت خارجاً وقتها من طور العلقة رأيت بافل يتجول بجانبي فأصابتني نوبة هيجان حتى كدت أن أندلق خارجاً وجزء كبير مني مجرد كتلة لحم. وخاطر أبي وقتها يجول فيه أن القادم مع الأيام سيكون ذكراً ويرجو أن يكون بجسارة بافل، أرى خواطر أبي بوضوح تام خاصة فيما يتعلق بي.
طول الرحلة بين وادي حلفا والخرطوم، وأمي لم يأتها المخاض بعد، جعلت الهواجس تراودني حول جدوى الخروج إلى عالم مجهول معلوم. أول ما انتبهت إليه هو الرتابة، وما نبهني إليها هو الفواصل التي لا تتعدى السنتمترات بين القضبان الحديدية والتي تحدث ذلك الإيقاع عندما تمر عليها عجلات القطار.
نعم، الرتابة ستجعلني أمانع في الخروج. تقاطعت رؤى هلامية غير واضحة الملامح واستغرقتني لدرجة أنني استسلمت قافزاً إلى أعلى رحم أمي حتى أن صوتاً قوياً صدر من داخلها، كاد أن يخترق المشيمة، والتصقت هناك متشبثاً بتلك المادة اللزجة. تصاعدت انفعالاتي وكيمياء لا علاقة لها بكتلة اللحم التي بدأت في التشكل لتصير في خاتمة المطاف أنا، واستقر في تلك التجاويف، التي تراءت لي وكأنها أنابيب حلزونية غائرة العمق وبعيدة الطول، استقر فيها أن البقاء في رحم أمي أفضل بكثير من الخروج.
عند بلوغي تلك المرحلة من الانفعالات "شفطت" كمية من الدم أكثر من اللازم وهمدت أطرافي التي بدات في التماسك بعد زمن من الحركة الأميبية، وصارت تهدهدني نغمات الإيقاع وهي ترتفع "ده دمدم .. ده دمدم .. ده دمدم ......."
شعرت بالارتياح يسري في عروقي، فأمي قد إطمأنت بعد وصول القطار لمحطة الخرطوم وأنا ما زلت متشبثاً بداخلها ودواخلها. وقضينا – هي وأنا - ردحاً من الزمن، أرفسها مرة وأعض على جوانبها مرات وهي تصرخ في خيوط حبلي السري وتلعن "أبو خاشي" فما زال تأثير لغة محطتها في وادي حلفا ملازم لها.
أصابني في ذاك اليوم غرور بقوتي بعد أن أدركت أن في مقدوري زيادة آلامها، وقررت أن ازيد من مناوشاتي لها وتناسيت رغبتي في عدم الخروج. تأوهت بشدة وجاءها المخاض.
بعد أن رفضت عضلات رحمها أن تتركني وشأني وبمساعدة قابلة لعينة، قررت في دخيلتها أن تخرجني مهما كان الثمن، خرجت ببطء لتقلبني تلك القابلة اللعينة رأساً على عقب وتضربني بشدة على عجيزتي. تزامنت أول صرخة لي مع انطلاقة صافرة حادة معلنة قيام قطار من محطة الخرطوم ليستقبل حي المرطبات أول مولود لأبي وأمي وسط حضور جيد من الأهل. يقولون إن الطفل عند ولادته يصرخ نتيجة دخول أول هواء إلى صدره ولكني أشك في هذا الأمر، فربما كانت هناك أسباب أخرى وللمواليد عالمهم الغير قابل للإختراق.
فأنا مثلاً كان يمكنني أن امتنع عن الصراخ بعد إخراجي قسراً لكن ضربة القابلة كانت مؤلمة وكأنها كانت تقرأ أفكاري. هي تعلم أن أبي رجل سخي وسيجزل لها العطاء بعد ولادتي، ولا تريد أن تضيع مثل هذه الفرصة لذلك لن تسمح لي بتنفيذ أي أفكار شيطانية، وهي كذلك لن تترك لي مجالاً لمفارقة الحياة قبل "السبوع".
هكذا جئت إلى الدنيا ورئتاي تستنشقان بقايا رائحة الشتاء الرطبة المنبعثة من جدران الطوب الأحمر المختلط بدهان الحائط الجديد، وعيناي تمسحان فضاء الغرفة ولا يثير فيها دوران المروحة المعلقة في السقف ببطء أي شيء يذكر، وأذناي تلتقطان صوت صافرة القطار الذي يطن داخلهما وجسدي المتشبث بأطرافه لا يقوى على الحراك. فقط ذلك الفراغ العريض الذي يكاد يبتلعني هو ما جعلني احتمي بثدي أمي أثناء محاولاتها إرضاعي لكن اللبن لا يستجيب من اللحظة الأولى. أصرخ، وينعقد الجزء أعلى أنفي وأسفل جبهتي راسماً تجاعيد لا تعبر عن غضب، والغضب خصلة كيماؤها معطلة عن التفاعل فالأرض بكر لم ينغرث على سطحها محراث بعد لإعدادها للانفعال، حتى الصراخ هنا تلاحقه ابتسامة كيدية فهو احتجاج على البداية المتعثرة لحياة دخلتها إذ لا مناص من تدفق الحليب من ثدي أمي ولو بعد حين. لا تستطيع أمي أن تصرح بأن ابتسامة وليدها كيدية، تصريح كهذا في تلك الأثناء سيعد ضرباً من النزق والتذمر. لا يصح أن تتذمر يوم استقبالها مولودها البكر، فالوقت ما زال أمامها والسنوات في انتظارها كي تتذمر كما تشاء. هل سمعت بالرجل الذي أزعجه صراخ إبنته أثناء المخاض فدخل عليها في غرفة الولادة وسط دهشة الحاضرين وانحنى إلى أن بلغ اطراف أذنها فهمس إليها بما لم يتخيله أحد، لتصمت وهي تكظم غيظها إلى أن خرج الجنين من أحشائها. هكذا يجري الأمر هنا، على المرأة الا تبدي ضيقاً أو ضجراً أو حتى صراخاً في لحظات كهذه.
أيام أو هي شهور لن أنعم بمثلها كما اكتشفت، وستكتشف أنت أيضاً. وكلما تآكلت أطراف عمري تبينت سبب عزوفي عن الخروج مبكراً من رحم أمي، ومحاولاتي التشبث بالبقاء حيث أنا، وإحجامي عن البكاء لحظة ميلادي لولا تلك الضربة القاسية التي تلقيتها. تلك الضربة كانت مجرد تمرين خفيف للتأقلم مع ضربات ولكمات مع حياة قادمة لم تتضح ملامحها ولا يمكن، لمنجم محترف ولا ضارب رمل ولا تلك (الوداَّعية) التي جعلتني حقل اختبار لها، التنبوء بها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق