"الحرب التي لا يد لك فيها، وتجد نفسك في وسطها وأنت لست طرفاً فيها، تشعرك بالتفاهة وأنك بلا قيمة". هذا ما قالته ألماظ كيداني عندما وجدت نفسها هاربة ذاك اليوم، وهو حالنا أيضاً بعد اندلاع حرب الهضبة. أصابنا انفجارها البركاني بالفوضى، ونحن المحاربون أصلاً، ووجم مارد السهل هذه المرة مجرجراً أذياله خلف الوديان. كانت حرباً أكبر منا، أقوى صوتاً وأشد فتكاً.
لابد من إعادة انتشار القوات المقاتلة الموزعة على عدة معسكرات، هكذا قررت القيادة سريعاً، ومع تلك الفوضى صرنا نجتاز الحدود غير عابئين بضوابط الحركة والمرور، فلا نرى أولئك الجنود الذين كانوا يلوحون لنا ويتجاذبون معنا أطراف الحديث في الحواجز ونقاط التفتيش. كلهم كانوا في طريقهم إلى مختلف الجبهات، لا ترى سوى ناقلات الجنود والدبابات والمدرعات المتحركة في عجلة من أمرها لتلحق بالركب. لا يهتمون لوجودنا الآن، فأمرنا تافه أمام هذا الحدث الجلل. ونرى سكان المدن القريبة والقرى يحملون أمتعتهم يتزاحمون على جنبات الطرقات التي لا تسعهم مع زحمة طوابير الجنود، في هروبهم الأبدي بلا وجهة محددة.
لم تكن تلك الحرب تعنيهم وحدهم، إن حربهم تعنينا أيضاً بعد أن وضعتنا في ضفة أخرى وعلى هامش الأحداث الكبرى. دوي المدافع الكبرى وصدى انفجاراتها، أزيز الطائرات التي تشق صدر السماء عابرة إلى فوق رؤوسنا إلى أهدافها، الفضائيات مساءً التي تنقل صور الموت ومواقع ارتكاز المدفعية وهي تطلق قذائفها، والمذياع يكمل المشهد وهو ينقل الأخبار على رأس كل ساعة في بقية الأوقات، لم تترك لنا سوى الجلوس والترقب والمتابعة. بدأ العد التنازلي في جبهة قتالنا بصمت مدافعنا. القوات الحكومية المنتشرة في مواجهة المعسكرات ووحداتنا القتالية ليست بأحسن حال من قواتنا، لم تشهد معارك بهذا الاتساع والحجم والقوة وبهذا الدمار. هي أصلا لم تخض حرب الدول التي تحشد لها كل القدرات والطاقات، فكل أسلحتها تختبرها في الحروب الداخلية الصغيرة المحدودة منذ التمرد الأول وإلى معارك الجبهة الشرقية التي نخوضها منذ عدة سنوات. كل ذلك السلاح والإنفاق العسكري الذي إن وجهته إلى نافذة صرف خدمية لما تمرد عليها أحد وكفت نفسها وكفتنا شر القتال.
مع استمرار تلك الحرب في دوراتها السنوية، وحالة الشد والجذب بينهما في أوقات الهدنة، استهلكتنا الخنادق وأمراضها. نخشى أن تأخذنا القوات الحكومية على غرة إذا ما غفلنا. صار الملل سيداً للموقف بلا منازع، فكر كثيرون في الهجرة إلى مواسم الحصاد لاستعادة روح الحياة التي افتقدوها. هدنة غير معلنة في تلك الجبهة، بل عد تنازلي وتراجع مؤشر الرغبة في استمرار المعارك والقتال، بعد انتقال وتحول كل العالم ليشاهد ما يجري بين حدود الهضبة.
أصبحت الأيام تمضي ثقيلة ونهار فصل الصيف في تلك الفيافي لا يطاق، يزيد درجة حرارته القائظة أصلاً طبيعة الأرض الصحراوية بجفافها الذي يبعث على الملل والكآبة، وتلك الصخور والتلال المتفرقة التي تعكس أشعة الشمس، وجبهات القتال هادئة مما يرفع تيرمومتر الضجر إلى أقصى حد. كنت وإيليا نلعب الدومينو، أثناء واحدة من تلك النهارات، والعرق يتصبب من كلينا، الصمت المطبق الذي يلف الكون في تلك اللحظات يجعل صوت حجارة الدومينو حين نضربها على الطاولة ينتقل إلى نهاية المعسكر، وإلى خارج أسواره.
سألته بعد أن وضعت آخر حجر لي على الطاولة:
- هل تعتقد أن لهذه الحرب نهاية؟ أنت خبير حروب طبعاً.
قال لي وهو يضحك:
- ما نفعله هنا ليست حرباً.. هذا شيء آخر.
وبعد صمت قصير تابع حديثه:
- بصراحة .. أحس وكأننا معلقون بخيوط تحركنا.. لا أدري من الممسك بأطرافها، لكنها تحركنا بلا شك.
تمعنت في كلامه قبل أن أهز رأسي موافقاً وأنا أقول:
- يمضي شهر أحياناً وأحياناً شهور قبل أن نسمع بهجوم على معسكر، ولا حتى القوات الحكومية ومليشياتها تبادر بالهجوم علينا، وكأنها لعبة مكشوفة نمارسها معاً.
قال لي وهو يتفرس في اللا شيء:
- نحن لا تقتلنا رصاصات الجيش، تلك ضحاياها قلة، بل تقتلنا تلك الخنادق بأمراضها ومللها، مثلما تفعل بهم.
القلق لا مكان له في حياة إيليا، هكذا منذ عرفته في أول موسم للحصاد التقيته فيه. صقلته بداية حياته العسكرية لكنها لم تطفئ وهج عينيه العاشقتين للحرية والانطلاق بلا قيود، بهجة الروح تورث هناك حيث كانت بذرته الأولى بين أحضان غابات الاستواء وأمطارها، وجدانه شكلته تلك الطينة الممزوجة بأوراق الشجر وقطرات المطر. وجدان مستلهم لسحر فضاءات الاستواء وغموض أكمته المتكاثفة. مفطور على قوالب الجمال المطلق تشكله فسيفساء الغابة .. الشمس .. المطر .. البرق .. الرعد .. الغناء .. الرقص. كل هذا الانتماء للجمال وكل تلك الروح المتوثبة نحو الحياة لم تثن إيليا من حمل البندقية، حملها عندما انتمى للقوات الحكومية في بدايات شبابه والآن يحملها لأسباب وقد تقدم به العمر لكنه أكثر انتماءً لهذه الأرض وليس غيرها. وهو بالرغم من الوداعة التي تحملها جوانحه إلاَّ أنه وفي ساعات احتدام الوغى ليس هناك أشرس ولا أعنف ولا أبرع منه في القتال.
خلال سنوات، مع زحفنا البطيء سيطر المقاتلون على رقعة واسعة بطول الشريط على الحدود الشرقية وأقاموا فيها معسكراتهم في المناطق الحاكمة التي تمكنهم من بسط السيطرة على قطاعات أوسع، وعندما أمعن النظر في الأفق وأضع المنظار في خيالي أجدنا بعيدين جداً عن أي معالم يمكن أن تقربنا إلى عمق الحدث.
دخل علينا مجذوب وهو يحمل، كالعادة، مذياعه في يده. وجدنا مشغولين بإعادة ترتيب حجارة الدومينو فجلس ليتابع الأيدي المتحركة ما بين الصدر وهي تحتضن الحجارة والطاولة. وجد مجذوب نفسه بعد يومه الأول الذي وصل فيه في موقع قيادي يتناسب مع خبرته العسكرية وقدراته التي اكتسبها خلال فترة عمله قبل الأسر، لكنه فضل العمل في القطاع الإداري تحت قيادة بيتر دون أن يبخل على غرفة العمليات، إذا ما استدعت الضرورة واحتاجوا لاستشارته، بالمشاركة في قراءة الموقف العسكري ووضع الخطة العملياتية.
تابعنا حديثنا بوجود مجذوب، بعد الجولة الثانية من دورة حجارة الدومينو، سألته عن رأيه فيما قاله إيليا عن الخنادق وأمراضها. قال بنبرة جادة:
"أسوأ ما في الحرب هو الخنادق، إنها وجه آخر للحرب لها حياتها وأحوالها. أفضل أن تحمل سلاحك وتنطلق مهاجماً ولا تبقى طويلاً أسيرا للخندق. إنها مثل أحوال السجون في رتابتها ومللها وأمراضها."
أكثر حالات الهروب من الوحدات تحدث عندما يطول البقاء في الخنادق بلا حرب ولا معارك، ويتسرب الملل ويسرح الفرد مع خياله كثيراً متأملاً أحواله مع لمعان النجوم أو في النهار الذي يجعل منها مكاناً أشد فظاعة من زنزانة. عادة ما يلجأ القادة إلى حيلة الاتهام بالخيانة عندما يهرب أحد المقاتلين من موقعه، وغالباً ما يترك سلاحه داخل خندقه ويمضي مخترقاً الظلمة أو يتحين فرصة في وقت محايد في النهار فيبتعد رويداً رويداً إلى أن يختفي قبل اكتشافه. كان هناك من يصابون بالجنون وآخرون يدفعهم اليأس إلى الانتحار، لا يجدون سوى السلاح بجانبهم فيمسكه أحدهم ليطلق النار على رأسه بلا تردد.
تابع مجذوب:
"أنا نفسي فكرت في الهرب أكثر من مرة عندما طالت فترة الأسر، رغم أني لم اتخذ خطوات جادة ، لكن آخرين فعلوها وهربوا فعلاً وبعضهم ألقي القبض عليه".
قلت له وأنا أتابع حديثه باهتمام:
"لكن ما لم أفهمه وأجد له تفسيراً هو أمر عثمان الطاهر، فهو كان بعيداً عن عالم القتال والخنادق وأمراضها، بل كان يتحرك على حريته وسافر عدة مرات إلى الخارج وعاد، كيف له أن يهرب؟ كيف له أن يعود إلى السلطة التي عذبته وقهرته وهو سبب وجودنا هنا لا نزال متمسكين بما قاله لنا في دعوته أول مرة".
قال مجذوب:
"هو ابن مدينتك يا آدم وأنت تعرفه. لكن الأمر هنا مختلف.. عثمان الطاهر خطط لذلك منذ وقت مبكر واستغل فرصة سفره واجتاز ما يعرف بمنطقة الموت في حرب الخنادق ووصل إلى الطرف الآخر. هذا شيء في رأيي يتعلق بمجذوب وطموحاته. هذا الوضع لا يمكن التنبؤ بنهايته وهو بعد في أول سلم حياته وخريج قانون دون أن يجد الوقت لممارسة مهنته، وقدَّر أن لا جدوى مما يجري. لو كنت مكانه ربما فعلت ذلك أيضاً".
ذاك اليوم مثل صدمة بالنسبة لي عندما أدار مجذوب مؤشر المذياع وتوقف عن الإذاعة الحكومية وهي تنقل لقاء مع عثمان الطاهر يحكي فيه قصة عودته إلى البلاد بعد سنوات قضاها حاملاً السلاح. لم يتوقع أحد ذلك، إذ لم يمض على مغادرته الموقع أكثر من عشر ساعات وعادة ما كان يغيب لأيام في مهام يتطلبها عمله المكلف به. كانت تلك واحدة من أشكال حروب الحكومة التي تواجه بها حاملي السلاح، أن تحاول هزيمتهم نفسياً. ساد التوتر في مركز القيادة، وانتابتني حالة قلق وإحباط وكأنني المعني بذلك الحدث وحدي. إحساس الخيانة والخذلان جعلني متماسكاً، هو خائن دون شك، صورته المطبوعة على جدران ذاكرتي منذ عهد الصبا، المرسومة بحبر البطولات والمقاومة والنضال، انكسر إطارها واهترأت. لا يمكن أن أجد له عذراً بعد أن دفع بالكثيرين إلى ميدان المعركة بلباقته وكياسته وذكائه، ليجيء اليوم الذي يقول لنا فيه "إني بريء منكم".
بعد أن هدأت قليلاً لم أمسك بأطراف سبب واضح لانفعالي تجاه حادثة هروب عثمان الطاهر، أنا نفسي كنت قد فكرت مرة بأن أنفد بجلدي عندما وصلت حالتي محطة من محطات اليأس، لم أجد الشجاعة الكافية لمواصلة التفكير فاندمجت أكثر مع محيطي، أطيل التأمل في مسيرة رفاقي حولي. أتذكر أبرز إنجاز حققته في حياتي كلها عندما ألزمت نفسي بتعليم إسحق دوكة الكتابة والقراءة في صبر، وأصبح بعدها محو الأمية إلزامياً. كنت سعيداً بهذا وأنا أرى إسحق يحمل سلاحه في يد وفي الأخرى يحمل كتاباً أو مجلة ويجتهد في القراءة مثل بطولاته التي تجلت في المعارك والقتال.
(11)
استفز حديثي مجذوب وبدا الغيظ يكسو ملامح وجهه وهو يسمعني أقول لألماظ "وماذا تعرفين عن الحرب؟ أنت لا تجيدين سوى صنع القهوة وحروب السرير". أراد الانتصار لها ولسيرتها التي يمسك في كل مرة يلتقيها فيها بأطراف من تفاصيلها، قال لي وهو ينظر إلى وجهي:
"وأنت ماذا تجيد غير مطاردة النساء، وقضاء وقتك في اللهو .. منذ عرفتك لم أرك تخوض حرباً ولا أدري إن كنت استخدمت سلاحك الذي تحمله في رحلاتك أصلاً".
ضحكتُ طويلاً وأنا أمسك بيد ألماظ التي أصابتها عدوى ضحكي لكنها قطعتها سريعاً مكتفية بابتسامة عريضة، وقلت لمجذوب وأنا أوجه سبابتي في اتجاهها، لأصد هجومه القاسي وأنا أعلم بنقاء سريرته:
"أرجو ألا تكون ألماظ في القائمة، إنها ليست من النساء، أشك في ذلك. فيها شيء من الجن والإنس .. تسكن الشياطين وآلهة الشر نصف روحها ويحتل النصف الآخر آلهة المطر. هي تقول ذلك. لذلك لا تحسبها من النساء اللائي أطاردهن."
ما زلنا في قلعة الماظ نتجاذب أطراف الحديث وصوت المولد الكهربائي يزداد تصاعداً كلما تراجعت الشمس إلى الوراء، والقهوة دائرة .. مرة تحملها ألماظ بنفسها قبل أن تجلس لتتناول فنجانها، وأخرى تحملها إحدى فتياتها العاملات معها ودخان البخور ورائحته العبقة يطوفان بالمكان. نعود مرة إلى ضحكات ألماظ وهي تروي حكاياتها التي لا تخلو من بذاءة أحياناً، فنضحك ملء صدورنا. ونتحول حيناً لمتابعة أخبار مركز التجارة الذي انهار الآن.. كلا البرجين صار ركاماً يرتفع في فوضى على ظهر الأرض والعالم مذهول بما يجري. كلما حاولنا الهروب من متابعة المشاهد التي تكررها الفضائيات، وقد سئمنا أخبار الموت والدمار، نعود مرة أخرى إليها. كان الحدث أكبر من أن تستوعبه تلك الحروب التي خضناها، حرب من نوع آخر مما جعل ألماظ تقول:
"إن آلهة الحرب عندهم ليست مثل تلك التي تحكمنا، إنها أقوى وأشد شراسة وتضرب ضربة واحدة لكنها قاتلة".
اعتدل مجذوب في جلسته وأخذ رشفة من قهوته ثم قال:
"هناك تجتمع آلهة الحرب مثلما تقول ألماظ، في هذين البرجين يجتمعون؛ لابد وأن خلافاً شديداً جرى بينهم فقرروا تدمير أنفسهم. هم من أيقظوا مارد الهضبة، وهم من يتحكم في نار المطر التي تشعل الحروب هنا وهناك."
قاطعته ألماظ:
"حروبنا هنا منذ الأزل، منذ أن اهتزت قشرة الأرض، وحفر المارد الذي أيقظته تلك الهزة على سطحها ذلك الأخدود وخلق لنفسه كهوفاً وهضاباً يسكن إليها في غفوته. حروبنا أقدم من هذين البرجين".
حاولت التدخل في الحديث وإعادته إلى ما حولنا، قائلاً:
"والمطر!"
لم ننتبه ونحن منهمكون في الحديث عن ضربة مركز التجارة العالمي، إلى أن الوقت قد مضى والمطر عاوده الحنين فتساقطت قطراته بغزارة من أراد وداع الأيام الأخيرة من فصل الخريف. اضطرت ألماظ إلى إطفاء المولد الكهربائي خوفاً عليه من المياه المتساقطة، وأضاءت لنا بعض الشموع ولمبات زيتية تستخدمها عادة. المجرى الموسمي امتلأ عن آخره وفاضت جنباته بمياه السيول القادمة من اتجاه المرتفعات.. ليس أمامنا الآن سوى الانتظار في قلعة الماظ إلى أن يتوقف هطول المطر وينقطع السيل الجارف لنعبر إلى الجانب الآخر من المجرى الواسع.
كانت تلك رحلتنا الأخيرة إلى مواقع القوات في الجبهة الأخرى التي تفصلها عن موقع القيادة تلك السلسلة الجبلية الممتدة إلى عشرات الكيلو مترات ولا طريقة إلا بالالتفاف حولها لتستغرق الرحلة كل تلك الساعات الطويلة. مع غفوة مارد الهضبة وإعلان الهدنة بين الدولتين اللتين أنهكتهما معارك الإبادة التي خاضوها بلا هوادة، قررت قيادتنا أن تلملم أطراف القوات المنتشرة على عدة جبهات ونتجمع في جبهة واحدة.
لا تبدو ملامح الخطوة التالية واضحة لأحد ولكن الجميع لا يطيقون الحرب الآن، لا الذين خاضوا غمارها ولا الذين ظلوا يراقبونها عن قرب أو بعد. آن الأوان أن يضع الجميع السلاح، ومثلما قالت ألماظ بعد إعلان الهدنة بين أبناء عمومتها وأخوالها "إن المارد ذهب إلى غفوته الآن، وسينام طويلاً إلى أن توقظه جذوة النار التي يشعلها المطر".
سألت مجذوب، وفي ذاكرتي ما قاله إيليا بأن هناك من يمسكون بالخيوط من أطرافها ويحركوننا كيفما شاءوا:
"هل تعتقد أن هذه نهاية المطاف؟ كل تلك السنوات التي قضيناها نحلم بالتغيير وأن نعيش في سلام وكرامة.. كل الفصول التي عبرت فوق رؤوسنا وتحملنا كل تقلباتها ولا شيء واضح يلوح في الأفق؟"
قال لي وضوء الشمعة يرسم ظلاً لوجهه على الحائط:
"تعرف يا آدم، أنا أعتقد كما يقول إيليا، أن خيوط الحرب كلها كانت تدار من داخل البرجين اللذين انهارا قبل ساعات. سيكونون مشغولين لفترة من الوقت إلى أن يعيدوا ترتيب الأوراق من جديد، حتى ذلك ستهدأ الحرب في كل الجبهات."
وواصل:
"نعم .. كل الحروب التي تدور في هذا العالم الآن هي بسبب تجارة السلاح، والبرج هو مركز رئيسي للتجارة العالمية."
طافت بخيال مجذوب أيام عمله في الجنوب في أوقات السلام التي قضاها هناك، بعد حرب ضروس ارتجت لها أطراف الغابة. جاءها وقت السلم وكانت نذر حرب أخرى تلوح في الأفق، لم يكن وقتها اكتسب الخبرة الكافية ليدرك أن للحرب خيوطا يتحكم فيها الآخرون وإنما هم مجرد وقود لها، كان مزهواً ببزته والعتاد العسكري الذي يقف خلفه مطمئناً إلى قدرته على حسم أي تمرد. لم يدرك حقيقة الأمر إلا بعد أن عاد مرة أخرى إلى العمل في تلك المناطق الاستوائية في زمن الحرب الثانية التي انطلقت شياطينها. كل يوم قضاه أثناء تلك الحرب متابعاً ومقاتلاً يخوض العمليات قائداً قواته بنفسه، يكشف له أن السلاح الذي يقاتلون به هو نفس السلاح الذي يواجههم، بل يتفوق عليهم أحياناً.
ألماظ كيداني متمسكة بوجهة نظرها وهي تتابع حديثنا، تتقمصها روح أندروميدا. فالحرب والمطر بالنسبة لها متلازمان، وكل الذي يقوله مجذوب هو ظاهر الأشياء لا باطنها. هي دورات تتحكم فيها أمزجة الآلهة، وأمزجتها ليست كالتي نعرفها في دورات فصول السنة، هي لها فصولها ومواقيتها الزمنية الأخرى، ليست كمواقيتنا المرتبطة بدوران الأرض والشمس والقمر، لها شمسها الأكثر بعداً ولكن تلك الدورة لابد أن تصادف دخول تباشير خريف ما عندنا، أي خريف وأي موسم! هذا ما لا نعرفه ولن نعرفه إلا إذا تابعنا تلك الدورات. وعندما تصادف ذلك الخريف يصيبها الاكتئاب والملل والاضطراب، لا تهدأ أرواحها إلا برؤية الموت ورائحة الدم، فتضطرب بسبب ذلك أرجاء الأرض هنا ويصحو المارد من غفوته ويوقظ معه أسباب الحرب فتشتعل النار.
كانت ألماظ تذكره بإيفا؛ عندما عانقها ذات مساء استوائي ماطر قبل أن يغادر في مهمته الأخيرة التي ما عاد منها، بدت له كغابة تعشق المطر ويحييها الحريق. وهي التي كانت تقول دائماً في لحظات نشوتها وانفعالاتها بأنها نار صاعقة لا تطفئها المطر ولا مياه الأرض ولا السماء. كانت تلك آخر ليلة يرى فيها إيفا، وروحها ما زالت محلقة في سمائه منذ أن افترقا.
****
خيبة الأمل الكبيرة في وجه كثير من المقاتلين تلك الأيام مثل كرة الثلج تتعاظم كلما مضت الأيام. صارت الحرب، التي أرادوها تحريراً، سجناً كبيراً يحبس بين جدرانه أرواحاً ديدنها الطيران والتحليق، ما اعتادت تلك الرتابة ولا ذلك الملل. ما بين العمل الشاق الذي يحصلون في نهايته على مكافآتهم وبين لحظات المتعة التي ينفقونها فيها، كانوا يتكئون على حائط من الآمال يخطون عليه أحلامهم. أحلام لا يمسكون بأطرافها، تتلاشى مع الوقت وتذوب في ثنايا تفاصيل الأيام التي تمضي.. لكنها تظل تعاودهم وتراودهم. يتحقق جزء منها، رغم بساطتها، يدفعهم للتمسك بها أكثر وهم قادمون إلى موسم حصاد جديد.
كنت أراها.. كنت جزءاً من تلك الأحلام، لكني كنت أفكر بشيء من التفاؤل فأنا أكره أن تستغرقني حالات اليأس، تعلمت من مجذوب وسيرته وطريقته في التعامل مع كل المواقف التي مرت به، منذ أن توطدت علاقتي به في السنوات القليلة الماضية، أن أنظر إلى كل الأشياء من زاويتها الإيجابية، متجاهلاً السلبية، حتى وأنا أعيش أصعب الحالات بؤساً.
مع شروق الشمس تحركت بنا العربة، بعد أن ودعنا ألماظ التي استيقظت على الضجيج الذي أحدثناه ونحن نحزم أمتعتنا ونحمل أسلحتنا. تجاوزنا مجرى مياه الأمطار الموسمي ولا زالت بين حوافه بقايا تلك السيول التي مرت عبرنا ليلاً. المشاهد ذاتها لكن يزينها لون الخريف فارضاً سطوة الموسم إلى حين، إطارات العربة تضغط على الطريق المغسول فتنضح آثارها خلفنا ماء، وعادت الأغنام وبعض الأبل إلى المرعى هذا العام بعد أن فرت بجلدها من الحرب، وثمة أرانب برية تتقافز ببين أطراف الطريق بلا خوف، تقف أحياناً على قوائمها الخلفية وتلاحقنا بنظراتها إلى أن نعبر من أمامها فتواصل قفزاتها، أما السلاحف بهيبتها ووقار مشيتها البطيئة ليست مكترثة أصلاً بوجودنا. كل شيء يوحي بالهدوء والاطمئنان، والخريف في نهاية أيامه.
استغرقت المسافة التي قطعتها العربة نحو ساعتين إلى أن وصلنا مدخل معسكر القيادة. الحركة في الداخل نشطة والمقاتلون في ذهابهم وإيابهم اليومي العادي. صوت إحدى الإذاعات يكاد يغطي الأرجاء، المقاتلون بعضهم مشغول بغسيل ملابسه وآخرون يؤدون واجباتهم اليومية. توقف الجميع عن الحركة وران صمت احتل الوقت من لحظة التفاتتهم تجاه العربة القادمة ما أن تجاوزنا البوابة إلى الداخل، إلى أن توقفنا أمام مكتب قائد الجبهة.
صار الجميع مضبوطا على وضع الانتظار والترقب، مع استمرار الهدوء على جبهات القتال، والمحاربون تغويهم أجواء الحرب. استقبلنا قائد الجبهة واقفاً أمام مكتبه، وتبادلنا الأحاديث عن أحوال الرحلة والطريق. تركتهم هو ومجذوب لإطلاعه على الترتيبات التي جرت لترحيل المقاتلين في آخر القطاعات التي زرناها إلى مراكز الانتشار الجديدة التي تم تحديدها.
انتهى موسم الخريف وشارف الشتاء على نهاياته ولا شيء يلوح في الأفق، حالة اللا حرب واللا سلم تراوح مكانها. بدأ حديث هامس يطفو إلى سطح الحياة الراكدة عن مفاوضات بين قيادتنا والحكومة. تصاعد الحديث ونحن نتابع الأخبار في كل القنوات، عادت الحيوية إلى غرفة جهاز الإشارة، كانت أهم غرفة طوال فترة المعارك، وهي الآن تنهض من جديد. جهاز التنصت يتابع حركة القوات الحكومية وتنقلاتها، ومالك مفاتيح فك الشفرات أصبح أهم من قائد القوة، يتابع أوامر القيادات للمعسكرات الحكومية المنتشرة على طول الحدود بالجبهة الشرقية في مواجهتنا، ويلتقط أخبار نشاط الجبهات الأخرى في الجنوب.
قلت لإيليا:
"هناك ما يلوح في الأفق الآن. ماذا ستفعل إذا ما انتهت الحرب؟".
قال وهو مطرق:
"لا شيء .. سأذهب وأمضي في طريقي المرسوم. إنهم يريدون إنهاء الحرب التي أشعلوا نيرانها الآن، وسيشعلونها متى شاءوا. قلت لك إن هناك من يمسك بخيوط اللعبة ويديرها."
حسدت إيليا على تماسكه في كل المواقف التي مرت بنا منذ اللحظة التي انطلقت بنا العربة من الحمرة، أحياناً يتملكني شعور بأنه اتخذ قرار الموافقة لحمل السلاح بعد هذا العمر من أجلي أنا وإسحق دوكة. قلت لإسحق ذلك أثناء تواجدنا في معسكر التدريب العسكري.. إيليا لم يخضع للتدريب، أهلته خبرته وقدراته لأن يكون ضمن طاقم المدربين وبقاؤه في معسكر التدريب ساعده في استعادة نشاطه وحماسه.
تتنازعني الهواجس الآن وهو مستلقِ بلا إكتراث على فراشه مولياً وجهه شطر السماء متطلعاً إلى النجوم في ليلة لم يغشاها القمر. مثلما خرجت أول مرة في رحلتي مع النور للعمل في المشاريع الزراعية بلا هدف واضح، قادتني الأيام كيف تشاء تصاريفها صعوداً وهبوطاً، ها أنا ذا الآن أرى ملامح الطريق بعد تلك السنوات بلا معالم محددة.
شريط طويل من حياتي يعبر أمامي، كثير من لقطاته باهتة الملامح لا شيء يثير الدهشة فيها، كما حياة كل الناس العاديين. إلا تلك اللقطات التي يظهر فيها جدي الأرباب وابتسامته العريضة تملأ الفضاء، كأنه يسخر مني.. يلوح لي بمسبحته التي يحملها دائماً في يده اليمنى. وددت لو ألعن دمه الذي يجري في عروقي، ما كنت هنا لولاه وفاطمة... أراها تجلس إلى جواره ثم تهرب ملوحة لي.
صرت أتأمل في سيرة الآلهة والجبال والمطر بين المجرات وأنا أطلق العنان لبصري في الفضاء الذي تلفه العتمة. أحاديث ألماظ كيداني التي لطالما أربكتني بأزلية الحرب تملأ ذهني، بتُّ أخشى تلك الحقيقة مذ أدركت كنهها.. أهرب منها مثلما هربت من ألماظ وقررت ألا أعود إليها مرة أخرى. لكنها تلاحقني مثلما تلاحقني حروب الغابة والمطر وانفعالات الأنهار التي يرويها مجذوب كلما راودته سيرة إيفا عن نفسها.
الحرب جذوتها لا تنطفئ وكأنها أصل الأشياء منذ الأزل.. ربما يغطيها التعب وتخبو لعام أو أعوام طلما استمرت مواسم المطر وفصول الخريف في دورتها دون أن تلامس أطراف الزناد. تأخذ الآلهة وقتاً تلتقط الأنفاس بعد أن تروي عطشها بالدماء.. تهدأ اضطرابات الهضبة والسهل ويغفو المارد أثناء غفلتها.
أنا أغفو أيضاً وفي داخلي كثير من الشك والتوجس بأن كل الأحاديث التي يحملها لنا الأثير عن آمال السلام الممكن، يمكن أن تبددها نزوة الآلهة التي ما عادت تكفيها القرابين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق