بقايا قطرات مطر لا يزال صدر السماء يبذلها، وقد تراجعت السحب الكثيفة في هذا اليوم الخريفي لتفتح نافذة لقرص الشمس يطل منها على استحياء في بادئ الأمر. وكلما توغلت العربة غرباً ازداد تألق أشعتها شرقاً، مؤكدة أنها مستمرة في سعيها اليومي رغم ساعات الصباح التي غيبتها فيها الغيوم كحالة ليست طارئة في مثل هذا الموسم من العام، كثيراً ما يفسد بهجة يومها ويقهر سطوة سلطانها، على غير عادة المواسم الأخرى، موسم الخريف بسحبه الكثيفة وأمطاره المنهمرة بكثافة أحياناً وبنعومة وخفة أحياناً أخرى، لكنها تستمر في فعل عادتها اليومية على أية حال وإلا لانهار الكون واختلت نواميسه.
ومثلما تشرق الشمس من اتجاه الشرق، كذلك علامات المطر تأتي من ناحيته، فتظل أشعتها تطارد تراكم السحب إلى أن تقهرها في نهاية الأمر وتدفع بها لتتوغل بقاياها إلى غربٍ جديد تهبه شيئاً من نفحاتها، على عكس ما يحدث ليلاً في غياب القمر؛ إذ يبدو كل شيء ساكناً بلا نهاية، فالظلام يلف كل ما حوله في كل الأحوال.
كثيرون يستمتعون بالأمطار التي تأتي في وقت غير الليل، إذ حتما ستشرق الشمس في أية لحظة. هذا ما يحدث الآن، فبعد كل هذه الغيوم التي ظللت الفضاء، ها هي الشمس تفرض سطوتها أخيراً والعربة تقترب من مشارف البلدة التي ستحط القوة فيها رحالها فيها قليلاً بعد سبع ساعات من رهق السفر، قبل أن تنطلق إلى وجهتها الأخيرة التي يستغرق الوصول إليها نحو ساعتين.
هكذا استقبلت "أم الخير" القادمين برائحة جدران بيوتها الفائحة مع هبات الريح، أو هم اقتحموها من ناحيتها الجنوبية الشرقية، كما اعتادوا فعل ذلك عند قدومهم من اتجاه المرتفعات. وهذه المرة كان اقتحامهم بتوقيت رابعة النهار وهي في حالة سكونها المطلق في مثل هذا الوقت، رغم إغراءات الطقس حتى الكلب الوحيد أطلق نبيحاً كسولاً بالكاد يطرق الآذان، ولم يبد حماسة لاعتراض القادمين أو لاستقبالهم، بل فضل الاستلقاء في التربة الرطبة بفعل المطر أمام مدخل البلدة، حيث الحانة الوحيدة التي تقدم لمرتاديها الشراب والطعام معاً. هي محطة عبور لابد أن يجد فيها الزائر ماءً ومكاناً للاستحمام. أما بقية الحانات، ولا تتجاوز الثلاث، فلا تقدم سوى الشراب وفي بعض الأحيان الشاي والقهوة.
طبيعة البلدة ليس لها ما يميزها عن كثير من البلدات المتناثرة هنا وهناك على جنبات الطريق الترابي الممتد من الشرق إلى أقصى الحدود الغربية. كل البلدات في تلك النواحي تكاد تكون نسخة واحدة، تأخذ لون الأرض في معظم حالاتها، تتماهى معها فلا يكاد المرء يميزها إلا إذا اقترب منها. ذات البنايات الطينية وأسقف الزنك أو تلك التي تستخدم فيها المواد المحلية من سيقان الأشجار الجافة و"القش"، فقط حانة ومطعم "أم الخير" استخدم في بناء جزء كبير منها الطوب البلوك وسقيفة ممتدة من الزنك الأمريكي، ما جعله علامة مميزة أمام مدخل البلدة في تلك الناحية. وليس هذا ما يميزها فقط، بل الأهم من ذلك هو صوت المولد الكهربائي عندما تحمله الريح بعيداً بعد غروب الشمس تماماً، معلناً عن بدء تشغيل تلفزيون البلدة الوحيد. وهو بطبيعة الحال مصدر إغراء لرواد الحانة استخدمت فيه ألماظ كيداني عبقريتها التجارية وقدراتها على بعث الحياة فيما حولها، وهي التي ظلت تغري مرتادي حانتها بجمالها وغنجها وصوت ضحكاتها النابع من القلب ليكسر جفاف تلك البقاع القاحلة طوال أيام السنة، عدا موسم الخريف.
في مثل هذا الوقت في تلك الأنحاء، بعيداً عن ضجة المدن الكبرى أو حتى الصغرى وصخبها، كل شيء ساكن حتى الزمن نفسه يبدو جامداً وكأنه توقف إلى الأبد لولا ظل الأشياء الذي يتمدد ببطء في الاتجاه الآخر. ولولا هبات الرياح بعد انتهاء المطر لبدت الأشجار كأنها لوحة مرسومة على حافة الطريق.. إنه وقت القيلولة. وعادة ما يتصيد قاصدو المتعة الزمن المناسب للمرور بالبلدة، التي تبدأ حراكها قبيل غروب الشمس، لقضاء أوقاتهم.
لم يجد مجذوب ورفاقه ما ينفضونه من غبار، ربما يكون عالقاً على ملابسهم العسكرية مثلما تفعل بهم المواسم الأخرى، وهم يترجلون من العربة التي تقلهم. طوال رحلتهم كانت الأرض مرتوية بالماء حد التخمة، والطريق الترابي في قمة سكونه لا أثر لغبار لا على الأرض ولا عالق في السماء، أما الطريق الجبلية التي تفصل ما بين المنخفضات والساحل كانت بطبيعتها الصخرية ملائمة لكل الفصول. لكن أخذ منهم التعب كل مأخذ، لبعد المسافة وإصرارهم على الوصول إلى رئاسة القوات خلال مساء اليوم، وهو ما اضطره لاتخاذ قرار بعدم التوقف طوال الساعات السبع الماضية إلا لفترة قصيرة.
المسافة بين المعسكر الذي انطلقوا منه والرئاسة على مقياس رسم الخرائط لا تستغرق أكثر من ثلاث ساعات، لكنها على الطبيعة تستغرق نحو عشر ساعات، فكان عليهم اختراق الحدود لطبيعة المنطقة الجبلية التي شكلها الأخدود في العصور الغابرة من أقصى أعماق آسيا الوسطى إلى مناطق القرن الأفريقي. يخترقونها ليسيروا عبر طرقات محددة لعبور الحدود مرة أخرى إلى الداخل، وجواز مرورهم هو سيارتهم وزيهم العسكري، إذ كان الجنود الأريتريون المرابطون عند نقاط التفتيش يرفعون لهم القبعات عالياً حين يمرون بهم، ولا يسألون عن أوراق ثبوتية ولا جوازات سفر ولا غيره، فهم يدركون من هم، على خلاف مواطنيهم الذين لا يتجاوزون تلك النقاط إلا بعد إثبات هوياتهم. كان ذلك في السابق قبل غضب الآلهة واهتزاز قشرة الأرض التي أيقظت مارد الحرب بين أبناء الهضبة. أما بعد تغير الأحوال خلال الثلاثة أعوام الماضية صاروا أكثر تشدداً مع الجميع، فلا يجتاز حواجز التفتيش أحد دون أن يبرز أوراق بارزة الأختام لا يغشاها شك حتى يسمح له بالمرور.
استقبلتهم ألماظ كيداني بعينين نصف نائمتين ووجه يحمل ابتسامة ترحيب مجهدة وحاجبين ارتفعا دهشة واستغراباً، وهي تحاول لملمة بقايا ثوبها الذي انحسر عن جسدها قليلاً. وصولهم المفاجئ قض مضجع قيلولتها، وهي التي اعتادت على السهر وحياة الليل، فحيويتها وانطلاقتها لا تبدأ قبل غروب الشمس.
كان آدم أول المترجلين من داخل السيارة عند مدخل الحانة، تحمله ساقاه ليتحرك رغماً عن المفاصل التي تيبست من قلة الحركة طوال ساعات، ويجول بصره في الأرجاء بحثاً عن سرير ليلقي عليه جسده سريعاً قبل الآخرين. اتسعت ابتسامة ألماظ وبدت أكثر ترحيباً وهي تلمحه يتجاوز المدخل، قبل أن يصيح فيها بطريقته المعهودة، ومن خلفه تتعالى الهمهمات والغمزات من بقية رفاق الرحلة:
- أهلاااً يا بت الحبشية.
تبادله واحدة بواحدة دون تردد، وبضحكة تناثرت في دواخلنا منتزعة الابتسامة من بين براثن الإرهاق:
- حبشية أمك ياود الغلفاء.
ثم عانقته بقوة وهي تقبل خديه بخديها في تحية خاصة يملؤها الدفء، كعادة أهل تلك البلاد حين يلتقون من هو قريب إلى القلب. لكنها رحبت بمجذوب وبقية رفاقه جميعاً أيضاً، بحرارة، وإن كانت لا توازي في دفئها ما حصل عليه آدم. كان الموقف عادة ما يثير مجذوب لهذه الطريقة من الترحيب المتبادل بينهما، ولأنه يعرف أن آدم من منطقة وقبيلة تقف سيوفها وخناجرها عند ذكر الأم أو المرأة عموماً، فكانت تتملكه الدهشة وعندما اضطر في مرة سابقة لسؤاله عن ذلك، قال له بضحكة مميزة "لا أدري.. هذه المرأة ملعونة"، واكتفى بذلك في بادئ الأمر.
عادةً ما كان آدم يتوقف عند بلدة أم الخير عند مروره بها ذهاباً أو إياباً، وإن لوقت قصير، أثناء إنجاز مهامه الإدارية المكلف بها بحكم مسؤوليته في معكسر قيادة الجبهة. اقترح هذه المرة على مجذوب، قائد القوة، التحرك في وقت مبكر، بعد انتهاء المهمة التي أنجزوها خلال أيام. كان في نيته أن يقضي وقتاً أطول فيها قبل الانطلاق إلى وجهتهم الأخيرة، يراوده إحساس بأنها ستكون آخر مرة يرى فيها ألماظ كيداني.
وافقه مجذوب الذي لم يتمالك نفسه، فور وصولهم، من الاستسلام لإغراء النعاس الذي يملأ جفنيه. اختار الاستلقاء في فراش قرب الغرفة الخاصة بألماظ دون أن يكترث للبقية، فالكل عليه التصرف الآن دون انتظار دعوة من أحد.. أو هكذا تجري الأمور.
استيقظ مجذوب بعد إغفاءة استمرت لأكثر من ساعة على صوت إحدى الفتيات تنبهه لتناول وجبة الغداء. كل شيء يشبه طريقة ألماظ في الترحيب بضيوفها ومرتادي قلعتها، كما تسميها. المائدة التي نظمتها بعناية بدت أكثر فخامة بالنسبة لهم من تلك التي يشاهدونها في المدن الكبيرة، وتراصت في جنباتها أطباق يتوسطها طبق الأنجيرا المعهود ورائحة الدجاج تفوح من بين جنباته مع تصاعد الدخان وإلى جانبه طبق صغير من البهار الحريف الذي يفتح الشهية.. لم يكن بحاجة إلى ما يفتح شهيته ولا رفاقه كذلك. وقبل أن يبدأوا في تناول طعام الغداء، الذي سيدفعون أكثر من قيمته طائعين مختارين، كانت رائحة البن المقلي تتصاعد في الأرجاء.. تلك الرائحة المليئة بالغموض والأسرار عندما تختلط بدخان البخور الذي يملأ المكان تخلق مناخاً آخر لا علاقة له بالحقيقة. روح هي التي تحترق، وكأنما هي جزء من ألماظ نفسها. "هي والبن حين تبدأ قشرته في التصدع ليأخذ لونه، شبيهان لا تكاد تفرق بينهما".
شيء ما اعتصر قلبه وصدره، لا يدري ما الأمر لكنها إيفا لا تنفك تراوده في يقظته وأحلامه.. ألم تكن بلون البن قبل احتراقه؟ وتفوح منها رائحة غابات الاستواء؟ أكثر من عشر سنوات مرت الآن منذ أن رفع يديه معلناً استسلام ما تبقى من القوة التي كانت تحت قيادته، بعد أن ارتج الجبل وزواياه والرصاص ينهال عليهم من كل الجهات، حتى من ناحية الجبل الذي كان يظن أنه يعصمهم. أصبح يخشى الجبال بعد أن رأى بأم عينيه ذلك الجبل يتململ متحركاً والهجوم يشتد عليهم في ذلك اليوم. الآن يجد نفسه محاطا بها بصخورها الصماء الجرداء لا تثيرها مغازلة المطر وكأنها قادمة من عصر سحيق.
"تباً...”
قالها الآن بذات النبرة السابقة، نبرة لم يغير رنينها عقد كامل من الزمان تحمل بين طياتها خيبة كبرى.
ومثلما تكثفت إيفا لحظتها وبدت له تلك اللحظة الأزلية جوار النهر وهو ممسك بيدها، ها هو الآن يلعن كل شيء مرة أخرى والتاريخ والطبوغرافيا والجيوبوليتيكا، محاولاً إزاحتها مثلما فعل عندما اجتاز المدخل الضيق إلى حيث يحشرون وخلفهم بنادق آسريهم من الثوار مشهرة، وكأنهم يهربون إلى ذاك الحيز الضيق خوفاً من خطوة مؤجلة بإعدامهم في ساحة مفتوحة، رغم أن الموت واحد في كلا الحالتين.
ذات الابتسامة وطعمها التي تملأ وجهه ودواخله الآن، لا فرق .. هو الآن قائد مثلما كان قبل أسره، وله موقعه بين القوات بحكم خبرته وتجربته، لكن لا فرق.. ذات الطعم العالق في جدران الذاكرة يلاحقه الآن. ربما هو الخريف والمطر وألواح الزنك التي انتظمت مشكلة تلك السقيفة ورائحة البن التي انطلقت من عقالها والماظ كيداني، لكن المكان ليس المكان والزمان ليس الزمان. فهناك الجنوب وهنا الشرق، رغم أن الشمس تشرق من ذات اتجاهها لا تغيره .. فقط تتغير الزوايا التي تسقط منها أشعتها. فمثلما وقع في الأسر قبل عشر سنوات في الجنوب، الأمر الآن سيان فهو امتداد لذلك الواقع، لا يحس بالفرق في الجوهر وإن كان المظهر تغير موحياً بتغير حقيقي قد حدث.
لم يتغير شيء منذ أن اجتاز المدخل الضيق متقدماً القوة التي استسلمت معه حتى فضح ضوء البرق الخاطف، الذي ارتجت لها انحناءات سقيفة الزنك، تلك الوجوه الشاحبة المحشورة في حيز يكاد يسعهم رغماً عنه. ومع هزيم الرعد واستمرار لمعان البرق وغموض ملامح الأفق بدا للخوف طعم ورائحة.. رائحة لا يخطئها القلب، لكن المسيرة المضنية التي أجبروا عليها طوال النهار وبعض من الليل، والإرهاق الشديد لم يتركا مجالاً لتسلل تلك المشاعر.
كان مساء كريها، لكنه مساء على أية حال فليس أمامه وبقية الأسرى سوى الاستلقاء في انتظار مصيرهم. لكن مجذوب ظل يفرك عينيه عله يستيقظ مما اعتبره كابوساً ربما انقض عليه إن هو استسلم للنوم. لا مجال لإيجاد وضع أكثر راحة، التصق جسده برفاقه من كل الاتجاهات، كانوا كذلك قبل ساعات وهم متماسكون داخل خنادقهم عندما اشتد القصف عليهم.
زارته إيفا كعادتها، وعندما تزوره تقلب عليه المواجع، تقيم زماناً يكفي لإحاطته بطعم الحياة وسرعان ما يتراجع طيفها مخلفاً وراءه مرارة تنغرس داخل مواطن الأمل. زارته الآن لكنه سريعاً ما أزاح طيفها عن طريقه.. لا ليس هو من أزاحه بل تلك الفكرة التي سيطرت عليه من صباح الغد. ما الذي سيحدث؟ "سيستجوبوننا" .. "وربما ليس لديهم وقت للاستجواب" تلك الفكرة أصابته بالرعب، رغم أنه يعلم أن هناك سجنا في رئاسة المتمردين ينقلون إليه كل الأسرى. آخر المعلومات لديه كانت عندما هرب أحد الأفراد من سجن الأسرى ووصل إلى مقر القيادة قبل أكثر من أربعة أشهر.
"لكن لا شيء يمكن الاعتماد عليه هنا، فيمكن لأحد لا يعجبه مظهرك أو يكون في نوبة من نوبات عظمته أو جنونه أن يصوب نحوك فوهة بندقيته ويفرغ ما في شريطها من رصاص على رأسك وكل جسدك." وكثير من الهواجس لازمت مجذوب اثناء استيقاظه وهو يرى تقلب رفاقه على الأرض، لم تكن طبيعة الموقف وغموض المصير هو ما يمنعهم النوم، بل الأرض التي بللها المطر.. هو ليس مجرد بلل وإنما سيل من الماء وتطفو معه تلك الهواجس.
انتفض جسد مجذوب وكأن به مس، حين أفاق من استغراقه على يد آدم التي هزت أكتافه في عنف:
"سعادتك... سعادتك. إيه الحاصل؟ الزغني سيبرد".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق