الفصل الثاني -1- المقدس والدنيوي
محاولتنا للوقوف على مفهوم العورة والعري، تنطلق من منصة علم الاجتماع التي رسخ لها إميل دوركهايم. فهو وفي محاولته الإحاطة بدراسة الظواهر الدينية بطريقة علمية ذهب، أثناء تعريفه للدين، إلى التفريق بين المقدس والدنيوي، ليخلص إلى "أن جميع أنواع الإيمان الديني المعروفة سواء كانت بسيطة أم معقدة تتمتع بميزة مشتركة. فهي تفترض ترتيب الأمور الحقيقية أو المثالية التي يتصورها الإنسان في طبقتين أو نوعين متعاكسين يعرفان عادة بتسميتين مختلفتين تعبر عنهما كلمتا مقدس ودنيوي بشكل كاف".
ويعرف الدين بأنه "نظام متضامن من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالمقدسات، أي المنفصلة والممنوعة". الأديان في علم الاجتماع، جان –بولي ويليم، ترجمة بسمة علي بدران، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2001.
بين المقدس والدنيوي يختلط مفهوم العورة والعري عند قراءته بعيداً عن سياقاته التاريخية وعزله عن محيطه الاجتماعي. وبعيداً عن التطور الحضاري عبر التاريخ وسطوة قيمه التي كرست لمفهوم العورة والعري باعتبارهما يستوجبان الاستنكار، فهناك مجتمعات في راهننا الحديث وحتى يومنا هذا ظلت بعيدة عن سطوة تلك القيم محتفظة بقيمها البعيدة عن "العيب" ولا تحفل منظومتها الأخلاقية بالربط بين العري والخطيئة. وخلال مسيرة الإنسان، كما تصورها الديانات القديمة، ارتبط العري في بعض جوانبه بالمقدس مثلما هو مرتبط بالدنيوي بعد اكتشاف مفهوم العورة.
وتبدأ سيرة الإنسان في القرآن من لحظة اكتشاف نفسه عارياً، أي أن هناك عورة يجب سترها، ويخرج حينها من حالة المقدس "قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ..." إلى مرحلة الدنيوي "اهبطوا منها جميعا ..." في انتظار مسيرة طويلة ليعود بعدها إلى العالم الآخر. والعورة كما جاءت في "لسان العرب": كل مكمن للستر . وعورة الرجل والمرأة: سوءتهما، والجمع عورات - بالتسكين - والنساء عورة؛ قال الجوهري: إنما يحرك الثاني من فعلة في جمع الأسماء إذا لم يكن ياء أو واوا، وقرأ بعضهم: (على عورات النساء) بالتحريك. والعورة: الساعة التي هي قمن من ظهور العورة فيها، وهي ثلاث ساعات: ساعة قبل صلاة الفجر، وساعة عند نصف النهار، وساعة بعد العشاء الآخرة. وكل أمر يستحيا منه: عورة .
كانت تلك اللحظة الفاصلة بين كون الإنسان "لم يك شيئاً مذكورا" وبين ردة فعله السريعة بمحاولة ستر عورته التي مثلتها استجابته للغواية في أبرز صورها. فسيرة الإنسان الفعلية نحو الأرض بدأت منذ استجابته للغواية وأصبح عارياً نتيجة لذلك، قبلها لم يك شيئاً مذكوراً. فنحن لا نعرف في القرآن الكريم عن سيرة الإنسان سوى قصة خلقه ومن ثم أكله من الشجرة المحرمة، ما بينهما من سيرة ومسيرة غائب تماماً. ماذا كان يفعل في الجنة وكيف يقضي وقته مع حواء التي خلقت لتكون رفيقته في الفترة ما بين خلقهما وحتى القرار الإلهي بهبوطهما وإبليس إلى الأرض لارتكابهما الخطيئة الأولى وهي عدم الالتزام بالتوجيهات الإلهية، وكان نتيجة ذلك عريهما وظهور سوءتهما.
الخطيئة الأولى
تلك الواقعة، واقعة العري، تبدو جلية في ارتباطها بالخطيئة الأولى ولكنها أكثر وضوحاً في علاقتها بثنائية الجنس والسحر وبدء كون الإنسان إنساناً بطبيعته التي تكشفها ردة الفعل لدى آدم وحواء. يكشف لنا القرآن الكريم كيف وقع آدم وزوجه في المعصية وأن الغواية التي وقعا في حبائلها هي من فعل الشيطان، وما الغواية إلا بوابة للسحر وتزيين الأشياء على غير حقيقتها أو ضد المشيئة الإلهية بامتلاك القدرة على السيطرة على العقل، وذلك بعد أن قال الله تعالى لآدم، كما جاء في سورة طه "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى".
"اكتشاف آدم عريه يشكل بداية الخلق كما بداية النص الديني. إذ لا توجد نصوص دينية سماوية (بل ميثولوجية) تصور حياة الإنسان والكائنات قبل اكتشاف العري. اكتشاف العري كان الانتهاك الأول للمنظومة السماوية وانسجامها. والطريق إلى الإدراك الأول أيضاً. وكأن اكتشاف آدم عريه كان اكتشافاً للذات التي لبسها العري. ورمزاً لها. هذا الاكتشاف الذي أفقده وحواء نعيم "الإغفال".
وعلى الرغم من طلبهما الغفران، كتب على آدم وحواء الهبوط إلى الأرض. وتتمة طبيعية للوعي بعري الجسد والهبوط كان بدء التناسل وكانت الحياة على الأرض وكان الثنائي آدم/حواء مؤسسها. هكذا في المعتقد الديني ترتبط كينونة الدنيا وكينونة الإنسان بوعي آدم عري جسده. بل ويبدو هذا الوعي سبباً مباشراً للكينونة الجديدة والوجود البشري على الأرض." رجاء نعمة - جسد المرأة الغواية ومحنة الإنسان
جاء في سورة الأعراف:
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22.
وكما أشرنا أعلاه فإن العري في القرآن هو الكشف عن العورة أو السوءة، وبدلاً من أن يقودهما تذوق الشجرة، كما أوهمها الشيطان، إلى أن يكونا ملكين أو من الخالدين أودت بهما، مع الشيطان، إلى المصير المحتوم وهو الهبوط إلى الأرض. الشيطان يعلم أن بأكلهما من تلك الشجرة ستظهر سوآتهما ما يعني خروجهما من الجنة التي كانت سكناً لآدم وزوجه بعد الخلق، فالجنة لا مكان فيها للعراة وذلك واضح في نص الآية "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ...". وما أن بدت لهما سوآتهما حتى طفقا يقصفان عليهما من ورق الجنة ليغطياها ويستراها. في ظل هذا الوضع الجديد، ورغم اعترافهما بذنبهما وطلبهما المغفرة من رب العالمين، بدأت سيرة الإنسان في القرآن " قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) الأعراف .. "فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) البقرة.
يشدد القرآن الكريم علي بني آدم، وهم في الأرض، على التقوى كخير لباس ولكن رغم ذلك يظل الهاجس الرئيسي هو أن لا يتعرى الإنسان، فقد أنزل عليهم قبلها لباس يواري سوآتهم وريشاً.
الأعراف
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27.
البقرة
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36.
ارتبط هبوط الإنسان من الجنة إلى الأرض، في القرآن، بالعري، مثلما ارتبطت الحالة النفسية لآدم وزوجه بمحاولة ستر العورة التي بدت لهما وهو ما يشي بالوعي بارتباط العري بالعورة لدى المسلمين منذ خلق آدم. ومثل العري في أبرز تجلياته بوابة للهبوط من السماء كحالة ينتقل بها الإنسان إلى المرحلة الثانية التي تتطلب التناسل وبالتالي ممارسة الجنس وهو ما لا يتوفر في المرحلة الأولى، ففكرة البعث والقيامة ويوم الحساب تقوم على تناسل بني الإنسان وتكاثرهم بعيداً عن الجنة أو السماء حيث بدأ خلقهم، ومن ثم يعودون مرة أخرى إلى السماء (الجنة والنار) وهذه المرة أيضاً يغيب فعل الجنس والتناسل "بمفهومه الدنيوي"، فهي الحياة الأبدية.
في المرحلة الأولى من وجود آدم وزوجه في الجنة ليس واضحاً طبيعة اللباس الذي يستر عريهما في بداية الأمر، ذلك اللباس الذي نزعه الشيطان عنهما مما يستدعي التساؤل إن كانت السوءة أصلاً موجودة ومستورة بلباس ما أم ظهرت بعد أن ذاقا الشجرة المحرمة مما دفعهما لسترها وهما يلملمان ورق الجنة، أو يمكن للتساؤل أن يذهب إلى إن كان آدم خلق عرياناً بمفهومنا للعري دون أن تكون له سوءة ظاهرة تحمل دلالات رغبة الجنس، ثم بدت لهما بعد ذلك بسبب غواية الشيطان، أم أن أكلهما من تلك الشجرة هو ما سيبعث فيهما الإحساس والرغبة الجنسية والشهوة؛ هذا ما يعضده قوله تعالى "ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين"، أي أن وجوب خروجهما من الجنة ارتبط بإحساسهما بالرغبة والشهوة الجنسية حيث لا مجال لها هناك.
وهذا الأمر يشير إليه بوضوح كتاب رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين مؤلفه الإمام يحيى بن شرف النووي الدمشقي، في آخر أحاديث باب الخوف، حيث "قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلاً) قلت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟، قال: (يا عائشة الأمر أشد من أن يُهمهم ذلك)، وفي رواية: (الأمر أهم من أن ينظر بعضهم إلى بعض)، متفق عليه.
ويشرح كتاب "رياض الصالحين" قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلاً))، حفاة: أي: غير منتعلين، وعراة: ليس عليهم ما يسترهم من الثياب، وغُرْلاً: يعني غير مختونين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر لما ذكر هذا قرأ الآية: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [الأنبياء:104]، فهذه الآية تدل على قدرة الله -عز وجل- على البعث؛ لأنه الذي أنشأ النشأة الأولى، وقد أوردها النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} أي: أن الإنسان يرجع مرة ثانية كما خلقه الله -عز وجل- من غير تبديل ولا تغيير، فما ذهب من أجزائه وأبعاضه يرجع إليه ثانية، فلو أن أحداً من الناس قطع منه عضو من الأعضاء فإنه يرجع يوم القيامة وهو مكتمل الأعضاء، الإنسان الذي يأتي في القيامة يكون أغرل: أي: غير مختون، فحتى هذه الجلدة اليسيرة ترجع إليه، كل شيء يرجع إليه كما خلقه الله -عز وجل-، وبعض أهل العلم يقول: إن الحكمة من خلقه بهذه الصفة -يعني الغُرْلة- ثم بعد ذلك يكون من الفطرة إزالة ذلك: أن يستشعر الإنسان أنه في هذه الدنيا ليس في دار البقاء، إنما هو شيء مؤقت ثم بعد ذلك سيرجع كما كان بهذه الخلقة في يوم القيامة، فيكون قد خرج إلى الدنيا ووُجد فيها كما يكون حاله حينما يرجع بعد ذلك بعد موته -والله تعالى أعلم-، فيرجع الناس هكذا من غير ثياب، ولا أثاث، ولا رياش، ولا أموال، إنما يأتون كما خرجوا من بطون أمهاتهم تماماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق