في شأن الاختلاف بين وجهتي نظر الأستاذة رشا عوض ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، عبد العزيز الحلو، حول ثورية حركات دارفور المسلحة، وقبل أن أقول لكم "أسألوا هيرب بيتز" وبالإنجليزية "Herb Betz"، وأن أوضح لكم من هو هذا الـ"هيرب ببتز"، لابد من التأكيد على أن من حق أبناء دارفور أن يثوروا في وجه المركز مثلما من حق أبناء الشرق وكردفان والنيل الأزرق والأبيض والشمالية ونهر النيل والخرطوم نفسها، أن يثوروا في وجه المركز، بغض النظر عن آليات وأدوات هذه الثورة.
فلطالما كان هذا المركز، ولا زال، مصدِّراً للأزمات من أجل المحافظة على مصالحه واستمرار قواعد اللعبة التي تحفظ توازنات القوى حتى إن أدت تلك القواعد إلى افتعال الحروب وتقتيل وقمع الشعب أينما ظهرت بوادر لاختلال ذلك الميزان. بل تطور الأمر في عهد "الإنقاذ" إلى التطهير العرقي والإبادة الجماعية والتشريد والتجويع المتعمد.
لكن قبل امتطاء صهوة جواد الثورة، وقبل أن نبحث في من صنع حركات الكفاح المسلح في دارفور أو غيرها، علينا الإجابة على سؤال مهم جداً في تقديري وهو من صنع هذا المركز؟ صنع هذا المركز المستعمر بلا شك، ولكننا جميعاً، شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً، ساهمنا في توطيد أركانه بمحض إرادتنا قبل أن نكتشف الخديعة الكبرى بمرور الوقت بأننا ألبسناه عباءة المستعمر نفسه بعد تغيير ألوانها لتبدو موغلة في الوطنية. صنعنا تلك الخرافة وصرنا نتطلع إلى العيش تحت كنفها، فما أن غادر الحاكم العام قصر غردون، لم نغير شيئاً، أو بالأحرى لم نجتهد لتغيير شيء، فقط غيرنا الإسم إلى قصر الشعب ورفعنا العلم. لكن القصر هو هو نفس كرسي الحاكم العام جلس عليه رئيس مجلس السيادة وربما نفس الأوراق التي كان يستخدمها، فقط غيرنا الترويسة إلى جمهورية السودان. لم يخلُ المركز من أبناء الشرق أو الغرب أو الشمال او الجنوب على مستوى كافة السلطات، يشتد الصراع كلما قلت الغنيمة، وتراهم يضحكون ملء شدقيهم كلما كلما زادت ولو على أشلاء ودماء أبنائهم الذين جاءوا بإسمهم.
قالت الأستاذة رشا رأيها فيما يخص حركات دارفور، وهو رأي يحتمل الجدل حوله اتفاقاً واختلافاً وفقاً لما نقله عنها موقع الديمقراطي من صفحتها على الفيس بوك. وقال عبد العزيز الحلو رأيه رداً عليها بعد أن قدم عرضاً تاريخياً لتطور الحراك السياسي المسلح والسلمي في دارفور وأسبابه منذ ما قبل الاستقلال، بل دفع بسبب أساسي لنهوض شعب دارفور للمقاومة والدفاع عن النفس أسوة ببقية "شعوب الهامش الزنجية" التي قاومت "الاستعراب". وعدد الشعوب "الزنجية" التي حملت السلاح لمقاومة الاستعراب "حيث إبتدر الجنوبيين المقاومة في 1955، ليتبعهم النوبة في 1984، ثم الفونج 1985، قبيلة الفور 1988، البجا والمساليت 1995 – وأخيرا دارفور كإقليم في 2002".
رغم أننا كلنا في العرق "زنج"، لن أناقش، هنا، الأستاذ الحلو حول سببه الرئيسي للمقاومة في دارفور وغيرها، فهناك شعوب أخرى غير "زنجية" قاومت سياسات المركز ومؤسسات سياسية حزبية ضمت بين عضويتها "عرب وزنوج بلغة الحلو" دفعت أثمان غالية في مناهضة سياسات المركز هذا غير المكونات الاجتماعية من "عرب وزنوج" في مختلف أنحاء السودان عملت جنباً إلى جنب في مسيرة المقاومة ولا زالت تعمل. فلم تكن المعنية الشعوب "الزنجية" وإنما كل الشعوب السودانية التي ترى أن النظام الحاكم في الخرطوم لا يمثل سوى فئة قليلة "عرب وزنوج" اجتمعت مصالحهم ليفعلوا بالوطن ما فعلوه.
فقط سأتوقف عند تحديده تاريخ حمل السلاح في دارفور كإقليم في العام 2002، وليس قبل ذلك من تنظيمات وحركات، ولم يجانبه الصواب في تحديد ذلك التاريخ، وهو ما يجب التوقف عنده قليلاً لنفهم من هو "هيرب بيتز" وما علاقته بالأمر. القريبون من مركز الأحداث، والمراقبون لتطور الشأن السوداني في تلك الفترة "العام 2002" يذكرون تماماً أنها بدايات الانخراط الفعلي للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل د. جون قرنق في التفاوض مع نظام الجبهة الإسلامية القومية الحاكم في الخرطوم، وبدأت المفاوضات في ضاحية "مشاكوس" في كينيا.
في تلك الفترة من عمر التجمع الوطني الديقراطي كان الدعم الأمريكي للتجمع قد بدأ تنفيذه، وهو دعم مقتصر على بناء القدرات السياسية للتجمع والتنظيمات المنضوية تحت مظلته. حيث خصص الدعم المالي للورش والمؤتمرات وسفر الوفود وافتتاح وتمويل نشاط مكاتب للتجمع في كل من أسمرا ونيروبي والقاهرة، ولا أذكر إن كانت كمبالا ضمنها. وكان المشرف على تنفيذ الدعم الأمريكي وصاحب التصديق النهائي بالصرف هو المندوب الأمريكي "هيرب بيتز"، وهو من المخضرمين في البحرية الأمريكية تلك هي العباءة التي كان يلبسها حينها ولكنه "قطع شك" من عناصر المخابرات الأمريكية "CIA".
نشطت برامج بناء القدرات وعقدت العديد من الورش في القهرة وكمبالا ونيروبي وأسمرا، وانعقد مؤتمر التجمع الوطني الديمقراطي في مصوع وغيرها من الأنشطة، قبل أن تتراجع بعد مضي خطوات التفاوض بين الحركة الشعببية ونظام الانقاذ. ولأنني كنت أعمل في مكتب التجمع الوطني الديمقراطي ومسؤولاً عن طباعة أي ورقة خاصة بعمل التجمع، بما فيها الميزانية الشهرية التي كان يسلمني لها "هيرب بيتز" شخصياً لطباعتها، وكان يستغرب كيف أفك خطه الرديء الشبيه بروشتات الأطباء، هذا إلى جانب الخطابات الصادرة من الأمانة العامة للتجمع سواء من الأستاذ باقان أموم الأمين العام أو الدكتور شريف حرير الأمين العام بالإنابة حين غياب باقان، لكل ذلك كنت ملماً بما يدور داخل أروقة التجمع وليس فقط بل ما يدور في أروقة التنظيمات التي لها علاقة بالتجمع.
مع بدء التفاوض في نيفاشا بين الحركة والحكومة ومضي الأيام والشهور، بدأت بنود الصرف تتغير شيئاً فشيئاً، وصار الدكتور شريف حرير هو الأمين العام بشكل مستمر للتجمع بسبب الغياب الطويل لباقان أموم وانخراطه في وفد التفاوض، ولكنه لم يكن غائباً عن ما يجري في الجبهة الغربية، وحين حضور باقان إلى أسمرا كان التقرير الكامل ينتظره على مكتبه بخصوص التطورات في دارفور، حيث بدأ حينها يظهر بند دائم ومهم وهو فواتير تلفونات الثريا والاتصالات مع مناطق مختلفة ليس من بينها مكاتب التجمع الوطني المعروفة. وبدأت معها ظهور بوادر حركة تحرير السودان وسبقتها بقليل حركة العدل والمساواة التي يقودها الراحل د.خليل إبراهيم. في ذات الوقت بدأت أسمرا تفقد ملفات التجمع الوطني الديمقراطي، فبعد أن طار من بين يديها ملف الحركة الشعبية إلى العاصمة نيروبي، ها هو ملف التجمع يتسرب منها بهدوء قبل أنتقاله بصورة نهائية إلى القاهرة.
أثناء ذلك، وإلى حين توقيع سلام نيفاشا في 2005، مع الإشارة إلى إبعادي قسراً منذ أبريل 2004 بسبب اعتقال المخابرات الأرترية لي، تحول جزء كبير من الدعم الأمريكي، بعد تراجع برامج بناء قدرات التجمع الوطني الديمقراطي، إلى تنشيط جبهة دارفور، بل وبدأ ربطها بالجبهة الشرقية حيث أُلحقت حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور بالتجمع الوطني الديمقراطي، وجاء عبد الواحد ومني أركو مناوي إلى أسمرا قبل أن تطرا الخلافات بينهما لينقسم التنظيم الوليد وكذلك حركة العدل والمساواة، في ذات الوقت بدأت أريتريا تضع قدمها على الحدود الشرقية لتشاد وفي منطقة أبشي حيث أنشأت خلية استخباراتية لمساعدة الحركات الدارفورية المسلحة على الأرض.
إن علاقة الحركة الشعبية ببداية ظهور الحركات المسلحة في دارفور لا يمكن إنكارها، بل كان بدعم أمريكي وعلم ومباركة قيادات الحركة في محاولة للضغط على نظام الانقاذ في ظل احتمالات هدوء الجبهة الجنوبية في أي وقت والتوصل لاتفاق ظل المجتمع الدولي مثابراً من اجل توقيعه. وكان للحركة دورها في دعم حركة وجيش تحرير السودان ميدانياً، بل وفصلت لها مجموعة من قياداتها الدارفورية لينخرطوا في الحراك هناك ومن بين من أعرفهم "عمر عبد الرحمن فور". وما أن وضع الموقعون على وثيقة الاتفاق أقلامهم وقبل أن يجف الحبر كانت دارفور قد اشتعلت، بفعل رعونة النظام الحاكم الذي هيأ الأرض تماماً للحريق، و"عبث" هيرب بيتز بخاصية ضبط المصنع في الجهاز السوداني، ولم يفعل ذلك بمزاجه دون شك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق