هذه الكتابة كانت قبل أن ينهد المعبد على رأس الحركة الإسلامية
لن يمر شهر رمضان دون أن تجتر معه الحركة الإسلامية السودانية ذكرى المفاصلة الشهيرة التي غيرت المشهد السياسي الحاكم والمعارض، وتسترجع مذكرتها الشهيرة المعروفة ب"العشرة".
على خلاف المذكرات التي غيرت التاريخ، التي تميزت بمطالبها السياسية العامة ونوعية مقدميها ومواقعهم من الأنظمة التي كانت سائدة حينها ونوعية التداعيات التي صاحبتها وتأثيراتها على المشهد السياسي في مجمله، جاءت مذكرة العشرة لتعبر عن أزمة سياسية تنظيمية داخلية للحزب الحاكم. تلك المذكرة لم تتطرق لا من قريب ولا من بعيد لأي مطالب سياسية مثلما هي العادة، ولا جاءت لمعالجة أزمات يمر بها الوطن، ولا طرحت بديلاً للنظام السياسي القائم والذي استمر لعشرة سنوات منذ إنقلاب الانقاذ في يونيو 1989. إنما جاءت معبرة عن أزمة داخلية كان لابد لها أن تصل حد المواجهة بين أطرافها، ومن قدمها هم أعضاء في الحزب الحاكم في مواجهة أعضاء في الحزب الحاكم، ومطالبها بصفة عامة هي إصلاحات هيكلية ترجح كفة صلاحيات قيادية لصالح طرف قيادي ومحاولة سحب البساط من تحت أقدام هيئات قيادية نافذة. لذلك جاء المشهد مغايراً، فهي المرة الأولى التي يتبنى فيها رئيس الحزب والدولة موقف مقدمي مذكرة مطلبية ويدعمها.
مذكرة العشرة، إذاً، حسب توصيف لدكتور عدلان الحردلو جاءت نتيجة لوضع رأى البعض داخل التنظيم الحاكم أنه لم يعد يحتمله، لكن من الجانب الآخر لتوصيف د. الحردلو فلا علاقة لغضب الجماهير بذلك ولا فشل الحكومة في تلبية مطالب المجتمع السياسية والاقتصادية فهي أصلاً لم تصدر بناءاً على قاعدة جماهيرية ولا لتحقيق مطالب من تلك النوعية التي تطالب بها المذكرات عادة. لذلك فما يهمنا هو ما حملته تلك المذكرة من رسائل معلنة وأخرى مخفية، لأن جوهرها هو صراع على مستوى القيادة حول صلاحيات قيادية رأت إعادة توزيعها.
ليس هناك أكثر من الإسلاميين من يحدثنا عن محنة الحركة الإسلامية، خاصة بعد أن حققت ما ظلت تحلم به طوال عقود واستولت على الحكم ودانت لها السلطة، وخروجها من مرحلة الدعوة ببلوغها مرحلة الدولة. في تلك اللحظة من التاريخ ذهب الترابي زعيم الحركة الإسلامية ومدبر أمر الإنقلاب ومرشح منفذيه ومعتمدهم، ذهب إلى السجن باختياره، في حين ذهب تلامذته من العسكريين وعلى رأسهم العميد عمر البشير إلى القصر وكأنما اختار الله لزعيم الحركة الإسلامية وقتها هذا المصير منذ تلك اللحظة لأنها قامت على خدعة وكذبة. لعلها تلك الخطيئة الأولى التي ارتكبتها الحركة الإسلامية، فهل كانت في حاجة لإدخال عباءتها داخل زي عسكري وإحداث إنقلاب على السلطة وهي التي أحرزت من الكسب السياسي والتنظيمي في فترة الديمقراطية ما لم تحرزه من قبل، وكان في مقدروها أن تزيد من مساحات ذلك الكسب في ظل النظام الديمقراطي وبلوغ السلطة عبره؟
لكن الحركة الإسلامية أو بالأحرى قيادتها لم تنقلب على النظام الديمقراطي فحسب، بل إنقلبت على مواعين شوراها عقب الإنقلاب العسكري بحلها لمجلس الشورى المنتخب. هذا ما ذهب إليه د. الطيب زين العابدين في حوار سابق له مع جريدة السوداني حيث قال "فقدت مؤسسات الحركة الإسلامية بعد حل مجلس الشورى المنتخب وتكوين مجلس شوري معين أغلبه مؤيد للترابي ومعظم اعضائه من الوزراء الذين كان يتم تعيينهم بالتشاور مع الرئيس البشير ونائبه المرحوم الزبير محمد صالح". وهو ما أشار إليه المحبوب عبد السلام في دائرة الضوء وخيوط الظلام بأن "آلت كل صلاحيات القيادة وسلطاتها في الحركة الإسلامية إلى المكتب القائد على النحو الذي وصفنا، وإذ أن مهمته تتلخص في نجاح الثورة وتأمينها فقد بسط سلطانه المباشر على أجهزة الضبط والتأمين العسكرية والشعبية وأجهزة الأمن والمعلومات." لعل هذا ما مهد للعسكريين والمناوئين للدكتور الترابي، في إطار خلافاتهم الداخلية، بسط سيطرتهم والعمل على إزاحته تحت دعاوى توسيع الشورى وتيسيرها وإكسابها معنى وأثراً، واحتاج هذا الأمر لعشرة سنوات منذ تنفيذ الإنقلاب ليكتمل نضجه بمذكرة العشرة. أو كما قال د. إبراهيم أحمد عمر في حوار ورد في كتاب لدكتور عبدالرحيم عمر محي الدين عن الترابي والإنقاذ "مذكرة العشرة تولدت نتيجة لكل الإجراءات الخاطئة وغير الواضحة والتخبط على النظام والإنفراد بالقرار في بعض المسائل وتجاوز لمؤسسات التنظيم بعد قيامها."
كيف خرجت المذكرة
يروي الدكتور أمين حسن عمر في حوار صحفي سابق عن تفصيل ما جرى وبدايات تحرك المذكرة إلى إن إكتملت بتوقيع العشر أعضاء عليها قبل تقديمها لاجتماع مجلس الشورى وهنا ملخص لروايته " توجه سيد الخطيب وعلي كرتي بالمذكرة إلى مكتب الرئيس وتقديمها للرئيس بصفته رئيس مجلس الشورى لإدراجها في أجندة الاجتماع.
ويتسق هذا التحرك من قبل الخطيب وكرتي مع اللوائح التي تنص على إدراج أي بند في اجتماع مجلس الشورى أن يتم بواسطة الرئيس أو الأمين العام أو ثلث أعضاء المجلس.
سيد الخطيب بعد مناقشاتنا في هيئة الأعمال الفكرية، انتقل بالنقاش إلى مركز الدراسات الإستراتيجية. وهناك دخل الدكتور بهاء الدين حنفي في الصورة بصفته مدير المركز. وفي هذه المرحلة دخل الدكتور غازي صلاح الدين بحكم الصداقة التي تربطه بسيد ودكتور بهاء، ودائما ما يتبادلون الرأي في كافة القضايا والمسائل. من النقاش الذي دار بين هؤلاء الأربعة كرتي والخطيب وبهاء وغازي خرجت مسودة المذكرة. ثم ذهب الإخوة الأربعة بالمذكرة إلى الفريق بكري حسن صالح وزير رئاسة الجمهورية، بغرض تحديد موعد لهم مع الرئيس. لكن الفريق بكري قال لهم لن اسمح لكم بمقابلة الرئيس إلا بعد معرفة الموضوع. وعندما تم اطلاع الفريق بكري على موضوع المذكرة، قال لهم: إذا كان هذا هو الموضوع فأنا أؤيد هذه المذكرة. وهكذا أصبح الفريق بكري الرجل الخامس في مذكرة العشرة، واعتقد أن هذا التأييد موقف طبيعي من الفريق بكري باعتباره شخصا ينتمي للقوات المسلحة.
بعد موافقة الفريق بكري عرضت المذكرة على شخص آخر، لا أرغب في كشف اسمه، لكن الذي حصل أن هذا الشخص الآخر انتقد المذكرة من جهة أنها لن تكون ذات وزن، إلا إذا انضم إليها أو أيدها أشخاص لهم رمزية. وضرب عدة أمثلة بكسب تأييد شخصية لها رمزية دينية مثل البروفيسور أحمد علي الإمام وشخص له رمزية تاريخية مثل الأستاذ عثمان خالد مضوي والبروفيسور إبراهيم أحمد عمر, وشخصية لها رمزية قبلية مثل حامد علي تورين، وشخصية لها رمزية سياسية مثل الدكتور نافع علي نافع. وهكذا اكتمل عقد العشرة الذين سميت بعددهم المذكرة."
لكن ما هي أوزان هؤلاء العشرة داخل المؤسسة التنظيمية للحزب الحاكم؟ أضطر د. التجاني عبدالقادر بمنهجه الذي رسم خطوات صياغة كتابه نزاع الإسلاميين في السودان إلى إعادة تصنيفهم إلى مجموعات "مجموعة تمثل الثيادات التاريخية ذات الصبغة الإخوانية الظاهرة، ويرمز لها بعثمان خالد مضوي وإبراهيم أحمد عمر وأحمد علي الإمام، ومجموعة تمثل القوات العسكرية والأمنية، ويرمز له ببكري حسن صالح ونافع علي نافع، ثم مجموعة القيادات الوسيطة ويمثلها غازي صلاح الدين وسيد الخطيب وبهاء الدين حنفي وطرف صديق وحامد تورين"
وجاء اليوم الفصل، أو البداية العلنية للصراع بين الإسلاميين يوم العاشر من ديسمبر 1998، ينطوي على حقيقة غياب الأمين العام الترابي عن مجريات ما يدور حوله من أحداث. فالمذكرة كانت قد قدمت للرئيس البشير الذي وافق على إدراجها في إجتماع مجلس الشورى دون علم الأمين العام (وكان يتطلب إدراج الموضوعات في أجندة الاجتماع إخطار الرئيس أو الأمين العام أو ثلث العضوية)، الذي كان قد أعد جدول أعماله المتعلقة مسبقاً بتعديلات النظام الأساسي للمؤتمر الوطني ليواكب مرحلة التوالي السياسي، للتداول حولها.
كانت ملامح الأزمة القادمة واضحة وأن هناك حركة غير طبيعية تلوح في أفق الحزب الحاكم، بدا ذلك واضحاً عندما جاء الرئيس البشير، رئيس الجمهورية ورئيس المؤتمر الوطني، لأول مرة في تاريخ اجتماعات الحركة الإسلامية وتاريخ مجلس الشورى، جاء إلى إجتماع مجلس الشورى بالزي العسكري الكامل برفقة حرسه من الحرس الجمهوري. وبعد قراءة تقرير الأمين العام بدأ السحر ينقلب على الساحر، فكما يقول المحبوب عبد السلام " فور قراءة تقرير الأمين العام عن الاجتماع الماضي، انتصب وزير دولة يطلب نظاماً، مقترحاً تعطيل جدول الأعمال الأساس المخصص لتعديلات النظام الأساس لصالح مذكرة تقدم بها عشرة أعضاء تناقش تعديلات مهمة في نظام المؤتمر الوطني. وفوراً تجاوب الرئيس فاتحاً تلاوة المذكرة، رغم طلب الأمين العام إدراج المذكرة ضمن الموضوعات الأخرى بعد إكتمال الأجندة المقررة سلفاً".
محتوى المذكرة
إشتملت مذكرة العشرة على مقدمة عادت بالحركة الإسلامية إلى المقدمة بعد أن تم حلها وتذويبها في ماعون المؤتمر الوطني الذي أرادوه واسعاً سعة لا يحتملها قميص الحركة الضيق. وجالت المقدمة بين تأكيدها على ماضي الحركة التليد ونجاحاتها الذي تعززه ديناميتها التي لا ترضى بالجمود، وبين التحديات والعقبات التي تواجهها وهي داخلة على القرن الحادي والعشرين ثم خاطبت المقدمة قضية المذكرة الجوهرية قائلة " نسأل الله أن يقوينا عغلى الثبات على عاداتنا في الشورى المستقصية لكل رأي حتى يكافئنا باجتياز هذه العقبة".
حددت المذكرة أربع مسائل مثلت بالنسبة لها تحديات المرحلة القادمة تمثل مدخلاً إلى حلول للمشكلات التي واجهت الحركة الإسلامية في فترة العشرة سنوات السابقة للمذكرة. المسألة الأولى هي الشورى سعة وفعالية، فقد رأت المذكرة أن الشورى الداخلية في الحركة قد عانت من مشكلات أدت إلى عدم استيعابها الآراء كلها لأسباب عملية رأت إمكانية التغلب عليها. المسألة الثانية هي فاعلية القيادة العليا، حيث ترى المذكرة أن فاعلية القيادة العليا قلت بسبب ترهل المنابر القيادية وانبثاث منابر قيادية اخرى خارج جسم الحركة لضرورة الحكم، ولضعف الصلة المؤسسية بين المستويات رأسياً وأفقيا، ولغموض العلاقة بين الحركة والدولة. المسألة الثالثة طرحت المؤسسية كأسلوب عمل، فزمان العولمة لا يغني الحركة أن تعتمد على بنيات غير مؤسسية لأن اعداءها يحاربونها بأسلحة العصر، والمؤسسية هي أقوى رافد للفاعلية ولنجاح الشورى. المسألة الرابعة جاءت لتأكيد الوحدة كسياج للحركة، فكل ما سبق ينتج وضعاً يضعف الوحدة، فوحدة الحركة مع الشورى هما أمتن ركيزتين لضمان الحد الأدنى من منعة الحركة للانطلاق إلى تحقيق أجندة الإسلام في القرن الحادي والعشرين.
الغرض من المذكرة والأهداف التي تسعى لتحقيقها جاءت في المحور الثالث للمذكرة، حيث أشارت بوضوح إلى العرض منها وهي أصلاحات هيكلية لإصلاح جسم الحركة والتنظيم من اعلى رأسها إلى أسفل أقدامها. ولكن عادت المذكرة لتوضح أن هذه الإصلاحات تتناول مؤسسة الشورى والقطاع القيادي لتحقيق أربعة اهداف تمثلت في:
توسيع الشورى وتيسيرها وإكسابها معنى وأثراً.
توحيد القيادة وإكسابها فاعلية ومضاء.
تكريس العمل المؤسسي في المؤتمر رأساً وجسماً.
تحقيق الأساس الصحيح لوحدة داخلة منيعة.
كل ذلك من أجل أن تعد الحركة نفسها قيادة وقاعدة لمرحلة التناقس مع الآخرين. فالصراع مع الآخرين –كما ذهبت المذكرة- ومغالبتهم "يقتضي الا نصطرع مع انفسنا (الوحدة)، والمواجهة مع اعداء يخططون سراً وعلانية تقتضي إحياء مؤسساتنا (المؤسسية)، وكبر السهم المنتصر في سودان وافر الأمكان الاقتصادي يغري المتكالبين عليه ولا نجاح للمواجهة معهم إلا بتنظيم عالي (الفعالية)، وأساس أمرنا فضلاً عن تبشيرنا بالشورى يقتضي إعلاء شأن (الشورى).
إنقسم الإسلاميون على أنفسهم في ما عرف في اللغة السياسية بمفردة المفاصلة وصارت لها ذكرى يجتر تفاصيلها المعنيون، وعاد الترابي بعدها مرات إلى السجن مثلما بدأ خدعته الأولى. لكن ماذا قال أحد الإسلاميين عن ما بعد المفاصلة وهو الدكتور محمد محي الدين الجميعابي وهو يطرح تساؤلاته لمحاوره في إحدى الحوارات الصحفية "أنا لا أستطيع أن أنفي أن الصراع كان سلطوياً، وبالتالي هل فشلنا كإسلاميين بعد تجربة الحكم؟ لم نكن مهيئين؟ هل الطمع، وممارسة السلطة والسلطان المطلق أثرا فينا؟ بالنسبة لي لا أنفي تأثرنا بوجودنا داخل السلطة، وبالتالي في اتخاذ قراراتنا، وجاءنا الإحساس بالسلطان المطلق، حتى عندما كنا نرفع آراءنا للشيخ حسن الترابي عن كثير من الممارسات.. الشيخ حسن لم يكن يقبلها، كان يدافع عن الجهاز التنفيذي دفاعاً مستميتاً ولا يقبل أي نقد في كل هذه المجموعات، ولو كان هناك شيء نأخذه على الدكتور الترابي فهو أنه كلما نأتي وننقد ممارستنا في الحكم فإنه لا يقبل أي نقد مصوب للجهاز التنفيذي، ولا أي ممارسات أو خروج وتجاوزات في قضايا الرأي العام، والحريات وحقوق الإنسان.. لم يكن يقبل.
ويستمر الجميعابي "بحسب تقديري ربما السبب تجربتنا مع السلطة، وربما السبب إحساسه أن التنفيذيين فوق النقد وما شابه ذلك، كل هذه الأشياء كانت واردة، ولكن أنا كنت مقتنعاً تماماً أنه سيأتي يوم من الأيام تندم فيه قيادة الحركة الإسلامية على هذا الأمر، حقيقة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم ليس عندهم استعداد لسماع الرأي الآخر، فقد حدث وحصلت مذكرة العشرة، ولكن الأوضاع اليوم أسوأ منها إبان مذكرة العشرة. كل الأشياء التى خرجوا عليها في مذكرة العشرة، كانت ممارساتنا أسوأ منها بعد المذكرة، رجعنا إلى ما اختلفنا حوله مع الشيخ حسن عبد الله الترابي، وازددنا عليه ممارسات، ويكفي ما وصلت إليه البلاد الآن: أزمات خانقة في الجنوب، أزمات خانقة في الغرب، أزمات خانقة في قضايا الحريات، في قضايا الرأي العام، في كثير من القضايا."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق