الفصل الثالث -2-
المتتبع لآيات القرآن الكريم يكتشف العلاقة القديمة بين الإنسان وممارسة السحر، فلا يكاد نبي أُرسِل إلى قوم لهدايتهم من الضلال إلا واجهه قومه بأنه ساحر وإن ما أتى به هو السحر وأساطير الأولين. جاء في سورة الأنعام "وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)" فقد جعل لكل نبي عدواً ليس من شياطين الجن فقط بل الإنس أيضاً "كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)".
يوضح القرآن الأثر الكبير للسحر في سيرة الإنسان كما جاء في قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون وآله، فبعد أن كلمه، وقبل أن يبعث به إلى قومه، ملّكه أدوات ليواجه بها النظام الاجتماعي وأنساقه القائمة على الكهنوت والسحر في ذلك الوقت، وهي آيات وعلامات تؤكد على قدرة وعظمة الله، ولكنها بلغة فرعون وسدنته ليست سوى نوع من السحر الذي يعرفون أسراره "قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) – طه. وكما جاء في سورة الأعراف "وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)".
الكتاب المقدس والسحر
جاءت الكتب التي أنزلها الله على رسله منكرة للسحر وتوابعه باعتباره من أعمال الشيطان، ومثلما يستنكر القرآن السحر ويعتبره من الضلال ومن أعمال الشيطان "ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر"، نزل الكتاب المقدس قبله، بشقيه العهد الجديد والعهد القديم، مستنكراً أعمال السحر والسحرة منطلقاً من الرفض الإلهي ومؤكداً أن الله تعالى كلامه متسق مع بعضه في كل الكتب المنزلة، وأنها لا تنفصل عن بعضها باعتبارها جميعها كلام الله، بعيداً عن حالات التحريف التي يمكن الحديث عنها. خاصة تلك النظرة إلى السحر المتفق عليها في جميع النصوص، ففي العهد القديم جاء في سفر التثنية 18 : 9 – 12 "لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم. لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار، ولا من يعرف عرّافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقي رقية، ولا من يسأل جاناً أو تابعة، ولا من يستشير الموتى، لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب.." وكذلك ما جاء في سفر لاويين 19 : 31 "لا تلتفتوا إلى الجان ولا تطلبوا التوابع (أي السحرة)، فتتنجّسوا بهم، أنا الرب إلهكم".
لم يختلف العهد الجديد في رؤيته ومنظوره للسحرة والسحر فجاء في سفر يوحنا، رؤيا 21 : 8 "وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون، والزناة والسحرة، وعبدة الأوثان، وجميع الكذبة، فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت، الذي هو الموت الثاني". وكذلك في رؤيا 22 : 14 – 15 "طوبى للذين يصنعون وصاياه، لكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة، ويدخلوا من الأبواب إلى المدينة، لأن خارجاً الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان".
كل ذلك يكشف بوضوح أن الأديان السماوية متفقة في رؤيتها للسحر، وأن لها موقفا متشددا تجاه ممارسيه لأنه من فعل الشيطان ومرتبط به وثيقاً. ويقول كامل النجار في مقال له بعنوان "ماذا يقول علماء الانثروبولوجيا عن الأديان" نشر في موقع الحوار المتمدن "استمر السحر كعامل مهم في الأديان السماوية الثلاثة. وقد حاولت اليهودية بكل الوسائل التخلص من السحر والسحرة وأمر العهد القديم بقتل السحرة. وفي المسيحية استمر السحر لعدة قرون حتى أتى كالفن بمحاكم التفتيش وأحرق عشرات الآلاف من الساحرات واستمر حرق الساحرات حتى القرن الثامن عشر كما حدث في أمريكا في مدينة سالم".
السحر والديانات الوضعية
على خلاف الأديان السماوية، ظل السحر لصيقاً بالديانات الوضعية والبدائية. وكشفت الكثير من الحفريات والآثار المكتشفة عن وجود السحر منذ أزمنة سحيقة تجلت في الرموز والصور التي عثر عليها في المدن الأثرية القديمة والمقابر، مؤكدة ما ذهبت إليه الأديان السماوية في نصوصها. وارتبطت الحضارات القديمة، التي احتوت تلك الأديان البدائية والوضعية، بالسحر كقوة موازية للطبيعة تحاول التحكم في ظواهرها التي تعجز عن تفسيرها.
تقول د. رشا أحمد البارودي في بحثها الجامعي "جدلية السحر والدين" موقف الانثروبولوجيا والديانات السماوية "إن السحر من الظواهر الاجتماعية القديمة التي ظلت تؤرق الإنسان وتهمه سواء كان هذا الاهتمام رجاءً أو خوفاً أو بحثاً عن الحقيقة. وفي بعض الأحيان نجد أن السحر يتخلل الدين، بداية من الديانات الوثنية وديانات ما قبل التاريخ وحتى في ممارسة الناس للشعائر السماوية".
ارتبط ذكر اسم الحضارة البابلية في القرآن الكريم بالسحر "وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" البقرة: 102.
انتشر السحر في بابل منذ أيام السومريين ولا تزال الكثير من بقايا المعتقدات والأساطير المرتبطة بالسحر والجن سائدة حتى اليوم، ولم يكن السحر معترفاً به فحسب في ذلك العهد بل اعتبر مكملاً للديانة البابلية ويستخدمه الكهنة في المعابد. ويقسم سليم طه التكريتي – في مقاله السحر ومعرفة الطالع والتعاويذ في بلاد بابل وآشور- السحر إلى قسمين "السحرة الشرعيون المعترف بهم من قبل الملك والكهنة، والسحرة غير الشرعيين." ويضرب المثل في إتقان السحر بحكماء وكهنة وسحرة بابل، الذين كانوا قوماً صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها. وانتقل السحر من بلاد ما بين النهرين إلى فارس في نحو خمسة آلاف سنة قبل الميلاد على يد الكاهن "زورستر" الذي وضع طرق السحر وأسسه التي سار عليها من بعده الكنعانيون والمصريون القدماء والهنود.
لا يختلف الأمر كثيراً في الهند حيث سادت الديانة البوذية، وكذلك الزرادتشتية التي انتقلت من بلاد فارس إلى أعماق آسيا، وكان السحر عاملاً حاسماً في تلك الديانة القائمة على فكرة الصراع الأزلي بين الخير والشر. وارتبط السحر بشبه القارة الهندية القديمة لتنوع الأديان الوضعية وتعددها، وهي أديان انطلقت من منصة التأمل في الكون واجتراح الحكمة لتغرق في بحر من الشعائر التي قادتها طريق السحر بأنواعه.
في مصر القديمة كان للسحر مكانته المميزة كاعتقاد راسخ طال مختلف ضروب الحياة وسيطر على حركتها، وكان لسدنته كلمة مسموعة ونافذة في المجتمع. وتناول القرآن موضوع السحر، أكثر ما تناوله في نصوصه، عند المصريين وآل فرعون. وعندما أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه موسى عليه السلام ليخرج بني إسرائيل من مصر، وكما ورد ذكره، مكنه من أدوات هي الأقرب والأقوى لإظهار قدرته وعظمته عندما تجبر وتكبر فرعون وقال أنا ربكم الأعلى، فكانت الآيات تتسق مع ما يمارسه السحرة في ذلك الزمان. ورسم القرآن الكريم صورة أكثر وضوحاً للسحر كاشفاً عن ضعفه أمام القدرة الإلهية. وكما جاء في سورة يونس " ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)".
وأكده عز وجل في سورة الأعراف "قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)". وهنا تأكيد لمكانة السحر عند قوم فرعون وارتباطه بالكهانة، بل وبالفرعون نفسه حيث كان بعض ملوك مصر من السحرة.
السحر عند العرب قبل الإسلام
لم يكن العرب يقطنون جزيرة معزولة، بل ارتبطوا بالعالم من حولهم تأثراً وتأثيراً، فقد شهدت الحياة في عصر ما قبل الإسلام اتصالا مع الآخرين سواء عن طريق التجارة أو العلوم. وتفاعل المركز العربي، المتمثل في مكة أم القرى التي قامت فيها الكعبة المشرفة منذ أن رفع إبراهيم عليه السلام قواعد البيت فيها، حيث انطلقت منه وعادت إليه رحلات الشتاء والصيف مع كل مراكز الحضارات من حوله على مستوى التجارة والمصالح الاقتصادية، وكذلك على مستوى الثقافة والعلوم والدين، حيث عاش بينهم "اليهود والنصارى" والصابئة والمجوس. ولعل أبرز ما ميز قدماء العرب قبل الإسلام هو عالم الجن. وكان لهذا العالم، بحسب عبد الرحمن حللي – المجتمع العربي قبل الإسلام، دراسة قرآنية "دور هام في حياة العرب إذ كانوا في تصورهم هم مصدر التنبؤ والكهانة والسحر والشعر، ونظراً لما يحتله من يمارس هذه الأشياء من مكانة فقد كانت مصدر تنافس بين القبائل مما ساعد على انتشار هذه الظاهرة، وهذا الجانب من الحياة العربية كان كأي جانب آخر عرضة للتطور والتغير، وما كان عليه الحال قبل البعثة هو نتيجة لتطور مستمر دام آلاف السنين قام به رجال من أهل الجاهلية إما بشعور ذاتي أو بتأثر خارجي من خلال الاتصال متعدد الأشكال مع العالم الخارجي". وتشكلت لديهم تصورات للآلهة والغيب لابد من التطلع لإرضائها، طالما هي تتحكم في مصائرهم، بالتقرب إليها خوفاً وطمعاً مما أنتج كثيرا من العادات والطقوس التي مارسوها وارتبطت في معظمها بالتنجيم وقراءة الطالع والتطير.
"الفودو" السحر في أفريقيا
احتل السحر في أفريقيا القديمة مكانة هامة، لا زالت مستمرة حتى عصرنا الراهن. ويعتبر الفودو من أشهر الديانات المتعلقة بالسحر الأسود ويعتقد المُؤرخون – بحسب موقع وكيبيديا- أن مذهب الفودو وجد في أفريقيا منذ بداية التاريخ الإنساني ويقول بعض المُؤرخين أنه يعود إلى أكثر من عشرة آلاف سنة ولكن هناك نظريات أخرى خرجت ومنها أنه من أسباب خروج هذه الديانة هو الاحتلال الأوربي لأفريقيا وبدء تجارة العبيد، ففي الوقت الذي كان يقوم فيه الأوروبيون بتمزيق المعتقدات الدينية للأفارقة لتحويلهم من جماعات إلى أفراد يسهل السيطرة عليهم كان خوف الأفارقة كبيرا حيث إنهم اجتمعوا مرارا ليعدلوا ويطوروا من شعائرهم الدينية ومزج هذه الشعائر بالرغم من اختلاف الطوائف حتى خرجت هذه الديانة في مجملها النهائي. وكلمة فودو بحد ذاتها مشتقة من كلمة فودون والتي تعني الروح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق