الصفحات

ثنائية السحر والجنس.. السحر نسق اجتماعي -11

الفصل الثالث -3-

أسست النظرية الوظيفية في علم الاجتماع لمفهوم النسق الاجتماعي باعتباره وحدة ضمن نظام اجتماعي تؤدي وظيفة في إطار شبكة معقدة يهدف أطرافها إلى تحقيق التكافل والاستقرار في المجتمع.

الصورة: السحر عند الفراعنة- مواقع إلكترونية

يرى عالم الاجتماع تالكوت بارسونز، الذي بلور نظرية النسق، أن هناك ضرورات وظيفية ومتطلبات لا بد منها للنظام الاجتماعي تتمثل في قابليته على تكييف نفسه للأنظمة الأخرى وللبيئة الطبيعية التي يوجد فيها. وقدرته على تحقيق أهدافه وتحقيق الوحدة بين أعضائه والمحافظة على الاستقرار والانسجام. ولتحقيق ذلك لابد من ظروف وبيئة تساعد النظام الاجتماعي على البقاء والتطور والاستمرار، ووجود لغة مشتركة تساعد على التفاهم والاتصال بين الأفراد والجماعات، وتوزيع الأدوار الاجتماعية على أبناء المجتمع أو الجماعة واتساق الامتيازات والحقوق مع واجبات الأفراد.

يشكل السحر نسقاً له وظائفه ضمن الانساق الأخرى التي شكلت النظام الاجتماعي الكلي، وكان له تأثيره على الأنساق الرئيسية التي أخضعها بارسونز للدراسة، وهي نسق الثقافة ونسق الشخصية والنسق الاجتماعي، ويكاد يسيطر على عصبها جميعاً متجاوزاً التأثيرات الوظيفية التي يمكن تحديدها في الأنساق الأخرى، خاصة في النظم الاجتماعية التي سادت قديماً. وهو ما أكده فريديريك كيك في مقال له عن نظريات السحر في التقليدين الأنثروبولوجيين الانجليزي والفرنسي "يجب تقديم حل سوسيولوجي لمسألة السحر. بتعبير أدق، فالمعالجة السوسيولوجية هي الكفيلة بحل المشكلة الإبستيمولوجية التي يطرحها السحر: كيف نفهمُ استمرار ممارسة تزعمُ أنها تنطبق على الطبيعة مع أنه لم يتم أبدا إثباتها أو تفنيدها؟ لفهم هذا الثبات للسحر، يجبُ وصفُ طابعه النسقي، أي علاقته بتنظيم كلي ذهني واجتماعي على حد سواء."

يندرج تحت مظلة النظام الاجتماعي مجموعة أنساق أبرزها النسق السياسي والاقتصادي والديني والثقافي، وغيرها ويندرج تحت كل منها مجموعة أنساق أخرى تتفاعل داخلياً، داخل كل وحدة، وتتفاعل بينياً وأفقياً ورأسياً وفقاً لشبكة من التفاعلات المعقدة المرتبطة مع بعضها لتحافظ على النظام الاجتماعي. وعندما نشير إلى أن السحر نسق اجتماعي فإن له تأثيره على كل الأنساق الرئيسية المكونة للنظام الاجتماعي. فهو يؤثر على السياسي مثلما يلعب دوراً في التحكم بالاقتصادي وله تفاعلاته التي تسهم في تشكيل الثقافة والعادات والتقاليد والطقوس الدينية. ويمكن تطبيق ذلك على الحضارة البابلية ومصر القديمة كنظم اجتماعية سادت لقرون ولا تزال آثارها باقية، ليس على مستوى الحفريات فحسب بل وفي واقع الحياة اليومية في العديد من مظاهر العادات التي يمكن تتبعها وإرجاع جذورها إلى تلك الحضارات القديمة.

كان للزراعة الدور الحاسم في انتقال البشرية من حالة التنقل والصيد إلى حياة أكثر استقراراً، مما أحدث قفزة على مستوى الحياة الاجتماعية من حالة مجتمع الرحل إلى تأسيس علاقات جديدة أكثر تعقيداً وتطوراً تتسق وطبيعة الاستقرار بما تشمله من علاقات إنتاج جديدة وتحول في الطبيعة الاجتماعية. وهو ما حدث للمجتمع البابلي الذي بدأت فيه مظاهر الاستقرار ونشوء القرى والمدن، وهو ما كان ولا بد أن يقابله تطور في النظام الاجتماعي، حيث ظهرت الحاجة للسلطة والسيطرة. وظهرت "بعض التنظيمات الاجتماعية التي جمعت بين السلطتين الدينية والدنيوية تحت زعامة حاكم ديني هو الكاهن الأعظم وكان في الغالب ذا صفة دينية لان الخوف من الظواهر الطبيعية التي تمثلها الالهة كانت من مميزات ذلك العصر. تولت تلك السلطة تنظيم العلاقات بين أفراد القرية أو المدينة، كذلك القيام بمهمة الحفاظ على أمن وسلامة المجتمع ضد أي اعتداء خارجي أو أي تجاوز كان يقع على أراضيهم، وبذلك ظهرت الدولة بشكلها الأول، وبشكل يفي باحتياجات ذلك المجتمع". – النظام الاجتماعي في العراق القديم – بحث - وليد سعيد الميالي. 

والمجتمع في العصر البابلي القديم يتألف، فيما عدا طبقة الكهنة والملوك، من ثلاث طبقات اجتماعية، فالطبقة الاولى تتكون من الاحرار ذوي الحرية المطلقة ويعدون الطبقة العليا في المجتمع، أما الطبقة الثانية فهم الطبقة الوسطى تتألف من الاحرار الذين يتمتعون بحرية بدرجة أقل من سابقيهم، والطبقة الثالثة هم العبيد.

وبعد أن كان السحر يمثل ظاهرة فردية لتفسير الظواهر الطبيعية التي تواجه الإنسان القديم، انتقل إلى مرحلة أخرى تلائم التطور الاجتماعي ليصبح نسقاً يسهم بفعالية في معادلة التوازن الاجتماعي ويمنح القوة للسلطة في فرض سطوتها والمحافظة على مصالحها. ولقد اشتهرت مدينة بابل بمزاولة عمل السحر ولم يكن السحر معترفاً به فحسب، بل اتخذ أداة لمخاطبة الآلهة وكان الكهنة في مقدمة الذين كانوا يستعملونه في المعابد، بل يعتبر جزءا مكملاً للديانة البابلية ذاتها.

وبحسب سليم طه التكريتي في مقاله -السحر ومعرفة الطالع والتعاويذ في بلاد بابل وآشور- "كان السحرة في بابل صنفين هما السحرة الشرعيون المعترف بهم من قبل الملك والكهنة، والسحرة غير الشرعيين وكان السحرة غير الشرعيين خصوماً للكهنة لأنهم ينافسونهم في ممارسة اعمال السحر وينتفعون من ورائها انتفاعاً كبيراً كان الكاهن الساحر الذي يعزّم على العفاريت ليخرجها من جسد الإنسان يسمى لدى البابليين باسم (مسمشو) أو (اشيبو) ويعني ذلك (الكاهن الذي يقرأ التعاويذ)".

في مصر القديمة يمكن الاستدلال بالتحول الكبير الذي طرأ على السحر وخروجه من دائرة الشعوذة والأعمال الفردية إلى مؤسسة أيديولوجية شكلت نسقاً اجتماعياً لا غنى عنه في التحكم والسيطرة على المجتمع، يدعم النظام الاجتماعي القائم ويساهم في استقراره واستمراره ويمنع الخروج والتمرد عليه. ويبدو هذا التطور واضحاً في نصوص القرآن الكريم، فبعد دمغ موسى عليه السلام بالساحر كان لابد من مواجهة دعوته لبني إسرائيل للإيمان بالله والخروج على النظام القائم، واجهه الفرعون بالسحرة منطلقاً مما اعتبره قدرات سحرية خارقة يمتلكها موسى بعد أن "أَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ" ثم "َنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ". فجاءت الآيات في سورة الأعراف "قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116). بتفكيك تلك الآيات يتبين الدور العظيم للسحر عند قوم فرعون يتجاوز الدور الفردي وأعمال الشعوذة التي تتمثل في مجرد إلقاء السحرة لما في أيديهم ليسحروا به أعين الناس خداعاً، إلى أهميته في البناء الاجتماعي.

وبحسب موقع عرب 48 "بدأ السحر في مصر القديمة منذ عصور سبقت عصر معرفة الكتابة، أي قبل حوالي 5200 عام، وكان يختص به طبقة معينة من الكهنة يطلق عليهم اسم الكهنة المرتلين أو "غريو حب" باللغة الهيروغليفية، وهم من اختصوا بممارسة السحر، والذي لم يكن مجرد طقوس وهمية للتأثير على الأشخاص، فقد وصل السحرة عند الفراعنة إلى معرفة علوم ما بعد الطبيعة أو "الميتافيزيقا"، حيث تمكن السحرة من السيطرة على القوى غير الملموسة التي توجد في الطبيعة، وفي الأشياء سواء الجماد أو الحي، وكان التحكم بقوى فوق الطبيعة علما سرّيا لم ينقله السحرة إلا بشروط وعهود ومواثيق، ولم يُتح لأي شخص أن يكون ساحرا، فقد كان ينتقى السحرة وفقا لشروط معينة ليدخلوا إلى المعابد ويتعلموا فنون السحر."

وتجاوزت ممارسة السحر أدوار الكهنة والمعابد إلى القصور الملكية حيث جاء في تاريخ مانيتون السمنودي، المؤرخ المصري الذي كان كاهنا في عهد الملك بطليموس الثاني، قبل حوالي 280 عاما ق.م، أن الملوك الفراعنة كانوا يمارسون علم السحر، حيث كان كل ملوك مصر ملمين بعلم السحر كجزء من وظيفة الملك في مصر القديمة.

ويذهب الموقع إلى أن من أشهر الشخصيات التي ألمت بعلم السحر في مصر الفرعونية، "إيمحوتب"، والذي بلغ من الشهرة والمكانة الرفيعة أنه كان في نظر الإغريق مساويا لرب الطب عندهم "أسكليبيوس″، فلم يكن إيمحوتب يقدم للناس ممارسات سحرية ساذجة، وإنما كان وزيرا في بلاط الملك زوسر، وهو مبتكر علم الهندسة المعمارية، وتشهد على ذلك تحفته المعمارية بسقارة، كما أنه كان رجل دولة من الطراز الأول، وفي عصر الدولة الحديثة أصبح "إيمحوتب" شخصية مقدسة في الأوساط العلمية، لدرجة أن الكتبة كانوا يسكبون من أجله قليلا من الحبر، قبل البدء في تدوين أي كتاب علمي، حيث كان سكب السوائل في مصر القديمة أحد أشكال القرابين.

ومثلما كان للسحر أهميته ودوره في النسق السياسي فقد كانت له أهميته وأدواره في الاقتصاد ومرتبطاً بالزراعة وبالطب، مثلما له وظائفه في النسق الديني والثقافي.

هذا الاستعراض للسحر وتاريخه ومكانته في سيرة الإنسان في الأديان يكشف عن حاجته المستمرة في اللجوء إلى قوة خارقة تساعده في مواجهة الظواهر الطبيعية. ورغم الدور الكبير للأديان السماوية القائم على محاربته باعتباره من أعمال الشيطان، إلا أنه لم يفقد تلك المكانة بتحوله إلى أيديولوجيا تجاوزت "غواية" الشيطان الأولى لآدم عليه السلام وزوجه ليصبح نسقاً اجتماعياً له قواعده وقوانينه الداخلية المؤثرة في بقية الأنساق المكونة للنظام الاجتماعي الكلي. وطالما ارتبط السحر بالشيطان فإنه وبعد الرسالة المحمدية الخاتمة، أصبح أكثر قوة وتأثيراً لارتباط جوهر معركة الشيطان مع الإنسان في العلاقة مع الله، "قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) – الحجر.

وهنا يتجلى السؤال الذي تسهل الإجابة عليه عن دور السحر الآن وعلاقته بالنظم الاجتماعية السائدة منذ ما بعد نزول الرسالة المحمدية إلى عصرنا الحالي. تسهل الإجابة عليه لأنه حقيقة أزلية واقعة متنازعة بين العلم والدين.


المراجع:

1. القرآن الكريم.

2. الكتاب المقدس.

3. موقع وكيبيديا.

4. موقع عرب 48.

5. سليم طه التكريتي -السحر ومعرفة الطالع والتعاويذ في بلاد بابل وآشور – مقال.

6. وليد سعيد الميالي – النظام الاجتماعي في العراق القديم – بحث.

7. فريديريك كيك - نظريات السحر في التقليدين الأنثروبولوجيين الانجليزي والفرنسي – مقال.

8. عبد الرحمن حللي – المجتمع العربي قبل الإسلام، دراسة قرآنية.

9. د. رشا أحمد البارودي - "جدلية السحر والدين" موقف الانثروبولوجيا والديانات السماوية – بحث.

10. كامل النجار - "ماذا يقول علماء الانثروبولوجيا عن الأديان" – مقال.

11. معجم المعاني الجامع.

12. ابن خلدون - المقدمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق