الفصل السادس
ثنائية السحر والجنس الملازمة لسيرة الإنسان في الأديان من منظور سوسيولوجي، تبدو ساطعة في علاقة السحر بالدين وعلاقة الجنس بالدين كل على حدة. ولكن ارتباطهما الوثيق كفاعلين اجتماعيين منذ القِدم، تجلى في تأثيرهما على النظام الاجتماعي القديم في أعلى مستوياته، وترسيخ ممارستهما اجتماعيا كفعل مقدس لإحكام السيطرة على الأنساق التي يتشكل منها وأبرزها النسق السياسي والاقتصادي.
لذلك كانت المعابد الدينية هي البؤرة التي ينطلق منها بناء المجتمعات تكرس لممارسة السحر والبغاء المقدس دون فصل بينهما، ليتمكن الكهنة ومن ثم الملوك من الإمساك بخيوط النظام الاجتماعي والسيطرة عليه.
يذهب علماء التاريخ إلى أن السحر بدأ في مصر القديمة منذ عصور سبقت عصر معرفة الكتابة، أي قبل حوالي 5200 عام، وكانت تختص به طبقة معينة من الكهنة يطلق عليهم اسم الكهنة المرتلين أو "غريو حب" باللغة الهيروغليفية، وهم من اختصوا بممارسة السحر، والذي لم يكن مجرد طقوس وهمية للتأثير على الأشخاص، فقد وصل السحرة عند الفراعنة إلى معرفة علوم ما بعد الطبيعة أو "الميتافيزيقا"، حيث تمكن السحرة من السيطرة على القوى غير الملموسة التي توجد في الطبيعة، وفي الأشياء سواء الجماد أو الحي، وكان التحكم بقوى فوق الطبيعة علما سريا لم ينقله السحرة إلا بشروط وعهود ومواثيق، ولم يتاح لأي شخص أن يكون ساحرا، فقد كان ينتقى السحرة وفقا لشروط معينة ليدخلوا إلى المعابد ويتعلموا فنون السحر.
هذا وقد جاء في تاريخ مانيتون السمنودي، المؤرخ المصري الذي كان كاهنا في عهد الملك بطليموس الثاني، قبل حوالي 280 عام ق.م، أن الملوك الفراعنة كانوا يمارسون علم السحر، حيث كان كل ملوك مصر ملمين بعلم السحر كجزء من وظيفة الملك في مصر القديمة. السحر: السر الفرعوني الأعظم- مقال نشر في موقع عرب 48.
أما الكهنة فكانت لهم السيطرة على عواطف الشعب كما السيطرة على السلطة، بل والقدرة على إسقاط الملك وتعيين غيره. تطور نظريات الحكم والسياسة العربية: العصر القديم – د. ضرغام عبدالله الدباغ.
وقد أشار القرآن الكريم في أكثر من موضع إلى علاقة الفراعنة بالسحر في سيرة موسى عليه السلام، ففي مواجهة آيات الله التي وهبها لنبيه موسى من أجل خروج بني إسرائيل، والتي وصفها فرعون بالسحر واتهمه بأنه ساحر، جمع الفرعون السحرة من أرجاء دولته واكد لهم علو مقامهم عنده إن هم أبطلوا سحر موسى. كل هذا لاجل أن لا يهتز النظام الاجتماعي القائم على سيطرة الفرعون على مفاصله وخوفه من فقدان امتيازاته. وإذا فشل في كل ذلك يهددهم بالتعذيب وقتل الأبناء واستحياء النساء. يفسر هذا جوهر فكرة فرعون بعد استخدامه السحرة لتعضيد ملكه بمواجهة "سحر" موسى وهارون، عندما سأله كبار قومه محتجين "أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك" هدد فرعون بعقاب قوم موسى ومن ناصره "سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون". وهذا التهديد ينطوي على فكرة محاربة قوم موسى بمنعهم من التكاثر، أي عزل رجالهم عن نسائهم وعدم تمكينهم من ممارسة الجنس ليزدادوا عددا. وذهب بعض المفسرين إلى اعتبار قول الله تعالى " ويستحيون نساءكم" إلى قتل الأبناء الذكور والإبقاء على الإناث مستدلين على ذلك بالرؤيا التي تقول بأن هناك طفل سيولد ويهدد عرش الفرعون، ولكن التهديد يذهب إلى أبعد من ذلك فالحديث هنا عن النساء، وقد استهدف الفرعون المواليد الذكور ومن بينهم موسى عليه السلام الذي قذفته أمه في اليم وهو بعد رضيع خوفاً عليه من القتل. إذاً الحديث عن استحياء النساء، وفي هذه الحالة يذهب البعض إلى سبيهن بعد الإبقاء عليهن وذلك يعني انتهاك عروضهن، ممارسة الجنس معهن إمعاناً في الإذلال من ناحية ومحافظة على النظام الاجتماعي القائم من ناحية أخرى.
آيتان في القرآن تصرحان بشكل أو بآخر عن علاقة السحر بالجنس وارتباطهما الوثيق، ويوضح ذلك الأهمية المركزية للسحر كنسق اجتماعي والجنس كغريزة جوهرية تتجاوز ما عداها من غرائز الطبيعة البشرية. فالشيطان طفق يعلم الإنسان السحر ليفتنه لتحقيق هدفه الرئيسي وهو الكفر بالله، ويستخدم السحرة قدراتهم التي اكتسبوها بفعل الشيطان في التحكم بالغريزة الجنسية، وبالتالي هدم القاعدة التي يقوم عليها جوهر الناموس الكوني وهي التكاثر واستمرار الحياة، وهي العلاقة بين الزوج وزوجته. فأول ما تعلمه السحرة من الملكين "هاروت وماروت"، الذين أنزلهما الله ببابل بعد أن جعل لهما شهوات بني آدم، هو التفريق بين المرء وزوجه. وكما جاء في سورة البقرة "وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)".
ثم تجيء آية في إحدى أصغر سور القرآن الكريم "سورة الفلق"، وهي آية "من شر النفاثات في العقد" وهي مرتبطة بالسحر ولعل ما جاء في بعض الرويات يؤكد ارتباطها بأصل موضوعنا وهو السحر والجنس وهذه المرة فإن السحر لا يصيب شخصاً عادياً وإنما الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام نفسه، فقد في جاء رواية الثعلبي "ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما: كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها. وكان الذي تولى ذلك رجل منهم -يقال له: [ لبيد ] بن أعصم- ثم دسها في بئر لبني زريق، ويقال لها: ذروان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه، ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وجعل يذوب ولا يدري ما عراه.
ما يؤكد أهمية الجنس، إلى جانب السحر، كنسق اجتماعي هو استهداف النبي صلى الله عليه وسلم في شرفه في الحادثة الشهيرة المعروفة بحديث الإفك، عندما اتهموا السيدة عائشة زوجة النبي في شرفها. ذلك الاتهام لم يكن عبثياً ولا لمجرد النيل من السيدة عائشة وإنما كان يستهدف البناء الاجتماعي الجديد الذي بدأت أسسه في الرسوخ وملامحه في التبيان. كان إعلان الحرب على النبي ورسالته يتم بأدوات مختلفة ومن بينها أداة الجنس. ولأن كل أداة من تلك الأدوات يواجهها النبي وصحابته بما يقابلها من أدوات مماثلة، إلا أداة الجنس فاحتاجت لتنزيل رباني يبريء السيدة عائشة من تلك التهمة. ذلك يؤكد مدى تأثير الجنس كنسق اجتماعي في النظام الاجتماعي العام السائد.
إن الوجود القوي للسحر والجنس ، في كل النصوص الدينية سواء الكتب السماوية أو مخطوطات الديانات الوضعية في الشرق الأدنى والشرق الأقصى، يؤكد عِظَم تأثيرهما كقوتين متصلتين، أو منفصلتين، على النظم الاجتماعية في مسيرة الإديان. فليس من نبي او رسول بدأ دعوته إلا كانت أول الاتهامات التي تطاله هي "أنه ساحر" وما أتى به هو السحر بعينه.
في كثير من الأحيان تطغى سيرة السحر على الجنس ومدى تأثيره على النظام الاجتماعى القائم وتحكمه في بقائه وقدرته على استمراره أو فنائه. هذا يتجلى بوضوح في قصة موسى وفرعون وفي قصة نبي الله سليمان الذي استعان بالجن والمردة في تصريف شؤون ملكه. وفي أحيان أخرى تطغى سيرة الجنس على السحر خاصة في سيرة الديانة البابلية والسومرية وكذلك في الديانات الهندية القديمة، حيث ظل البقاء المقدس نظاماً قائماً له سطوته الروحية والمادية المؤثرة على مجمل النظام الاجتماعي.
ولكنهما، السحر والجنس، أيضاً يتقاطعان في معظم الأحيان وبينهما خيط خفي وذلك للتداخل الكبير بين الطقوس الممارسة في كليهما، أو هو رابط مفتعل جعل أحدهما رهين بالآخر. وكثيراً ما يستعان بهما مجتمعين كقوتين لهما تأثيرهما الفعَّال على مستوى السلطة الدينية أو السياسية وبالتالي السيطرة على المجتمع. وهما بذلك يتجاوزان مجرد الفعل الفردي للسحر أو الغريزة الطبيعية للجنس إلى فعل اجتماعي له دوره في التحولات الاجتماعية الكبرى.
لم تنجح السلطة الدينية التي اعتبرت السحر كفراً والجنس خارج النظام الديني خروجاً، في السيطرة على تأثير استمراريتهما وفعاليتهما لطبيعتهما المتعلقة بالطبيعة البشرية نفسها ونزوعها إلى السيطرة. فالسحر والجنس، غير المفهوم الديني المقدس الذي عرف بهما في الديانات الوضعية، مثَّلا محركاً سياسيا واقتصادياً لعجلة الحياة. ففي قصة كليوباترا ويوليوس قيصر نموذجاً لتوحدهما الجسدي في تثبيت أركان حكمهما ف مرحلة ما من تاريخ مصر قبل أن يجتاحها الرومان. ولطالما شبهت كليوباترا نفسها بالإلهة إيزيس، ‘حدى آلهة الديانة المصرية القديمة، وكانت تتمتع بقوى سحرية وأنثوية جعلت عبادتها تطغى وتتمدد حتى مناطق النوبة وتجاوزتها إلى مناطق شمال البحر الأبيض المتوسط.
من ناحية أخرى استخدم الجنس، من خلال مظلة الزواج السياسي، في تمدد القبائل وبسط سلطانها على قبائل أخرى ومناطق أوسع. فقد كان زعماء القبائل يلجأون غلى الزواج من عدة قبائل أخرى رغبة في زيادة رقعة نفوذهم السياسي والاجتماعي وربط بعضهم البعض بروابط الدم.
ربما نجحت الأديان السماوية في وضع الجنس داخل إطار شرعي، وما خارج الإطار غير شرعي، ووضعت من القوانين ما وضعت برسم ضوابط وحدود وإلا كانت العقوبة في الآخرة تنتظر من يتجاوزها. كما اعتبرت السحر كفراً صريحاً مما يوقع ممارسه تحت طائلة العقوبة في الآخرة أيضاً. هذا يمثل اعترافاً ضمنياً بأن الإنسان بطبيعته قابل للإغواء وأن قوة الشيطان كبيرة عندما طلب من الله سبحانه وتعالى أن يرجئه حتى يبعثون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق