أمير بابكر عبدالله
كأني أراه أمامي الآن، خارجاً من "قطيته" المجاورة للمبنى الرئيسي لأدارة معسكر التدريب "الماظ"، متأبطاً دفتر محاضرات تاريخ السودان، متجهاً ناحية السقيفة التي سيلقي تحتها محاضرته، في خطوات بطيئة واثقة حاملاً ابتسامته بين جوانحه وعلى وجهه.. إبتسامة مشحونة بنقيضين، ذلك الأمل الذي لا يفارقه في مستقبل مشرق للوطن هو آت رغم الإحن والمحن، وذلك الهم .. هم السنين التي بدأت تتسرب من بين يديه.
كثيرون يتكئون على ميراث آبائهم أو أجدادهم، لكنه لم يكن واحداً من أولئك كأني به يستلهم بيت الشاعر "ليس الفتى من يقول كان أبي .. بل الفتى من يقول ها أنذا". وهو إبن عضو مجلس رأس الدولة الأسبق، أول عضو مجلس لرأس الدولة السودانية من أبناء الجنوب، فلمون مجوك، إختار الإلتحاق بالكلية الحربية، بعد أن ترك جامعة الخرطوم بمحض إرادته، ليتخرج منها ضابطاً في القوات المسلحة.
أن تكون إبن رجل في قامة فلمون مجوك وضابطاً في القوات المسلحة (حتى بالمعاش) ميزتان مغريتان جداً في سوق النخاسة السياسية تحيلان من يتمتع بهما إلى نجم تتهافت عليه دعوات الإلتحاق بالممالك العلوية، وإغراءات المناصب الرفيعة. لكنه إختار أن يسير على قدميه عشرات الكيلو مترات متجاوزاً مواقع القوات الحكومية ليصل إلى حيث مركز تدريب قوات التحالف السودانية. حتى معارضة النظام لم يختر الجانب الناعم منها حيث الفضائيات تجبرك على تلميع وجهك ليبدو مشرقاً في شاشاتها، وجوزيف من الذين يجيدون إحكام ربطة العنق بعد إختيارها بما يتناسب مع البدلة الكاملة والقميص المناسب، هذا في الحياة العادية، لكنه إختار ما ليس عادياً من الحياة.
جاء تحمله قدماه قبل أن تقله العربة إلى المعسكر، مرتدياً جلابية بيضاء بياضاً أقل بكثير عن سريرته ومنتعلاً حذاءاً أخرقاً (مثل صانعه أو من فعل الزمن والطريق)، بادي الإرهاق من طول المسافة التي قطعها، لكن تعب الوطن لا يضاهى فلا بأس من تعب سيمحوه حمام بارد أو إتكاءة تحت رقعة ظل. هو خبير بالدرب الذي اختاره، وهي خبرة مزدوجة عمادها حرب العصابات التي عايش جزء كبير منها في الجنوب منذ أن كان يافعاً، وإن لم يشارك فيها لكنه عاش طقوسها جميعاً وعرف معاناتها، وكذلك الحرب النظامية التي كان معلماً بارعاً فيها إبان عمله في الكليات والمعاهد العسكرية أثناء فترة عمله في القوات المسلحة. خبرة كان يحتاجها معسكر التدريب بشدة، لذلك جاء إختياره كرئيس لشعبة التدريب في الدائرة العسكرية لقوات التحالف السودانية.
كنت حريصاً على حضور محاضراته عن تاريخ السودان التي صاغها بنفسه، وكانت ضمن منهج مركز التدريب ضمن محاضرات نظرية أخرى سياسية وتنظيمية إضافة لمنهج محو الأمية التي وضعتها شعبة التعبئة السياسية للدورة التدريبية إلى جانب التدريب العسكري الذي كان يشرف عليه ميدانياً.
كأني أراه أمامي الآن يعتلي منصة إفتتاح المؤتمر العام الثالث لحزب التحالف الذي انعقدت فعالياته في العام الماضي، وينظر بفخر وإعزاز إلى الحضور بأن ما ساهم فيه بكل جهده الفكري والبدني يثمر شيئاً ناضجاً عله يساهم في إزالة تعب الوطن وتحقيق السلام والوحدة، وأن محاضراته حول الديمقراطية وأسسها وقيمها وضرورتها في خلق بيئة سياسية وتنموية صحية ربما اقترب أوان تحققها. "إن الديمقراطية ونظام الحكم الديمقراطي هو المفتاح لحل أزمة الوطن وفي ظله سيتحقق السلام ونحافظ على الإستقرار ووحدة البلاد" هذا ما كان يؤمن به ويردده دائماً.
لم تتردد عضوية المؤتمر العام الثالث في اختياره رئيساً للمجلس المركزي، لكنه اعتذر بشدة عن تحمل مسئولية ذلك التكليف لأسباب أضطر المؤتمرون لقبولها، أولها إنه لا يقيم الآن بصفة دائمة في السودان وربما تضطره ظروفه الصحية في البقاء مدة أطول حيث مقره الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية. لكنه رضخ لرغبات الجميع ولم يجد خياراً من قبول تكليفه بمسئولية نائب رئيس المجلس وإمكانية مواصلة إسهاماته الفكرية والسياسية التي لم تنقطع.
منذ التقيته بين جنبات تلك الفيافي أو في خضم حواراتنا التي نقطع بها الأمسيات ولا تنقطع، لم أعرفه سوى وحدوياً، ولا يرى السودان إلا داخل هذا التنوع والتعدد، "أي شيء غير هذا إختاروا له إسماً آخر غير السودان" هكذا يصر. وما يقوله عن وحدة السودان ليست هي مجرد كلمات يطلقها على عواهنها، بل يدعمها بالعمل اليومي المتواصل، حتى عندما اختار الولايات المتحدة الأمريكية مهاجراً في السنوات الأخيرة، ظل يقضي أوقاته في الوطن وبين أهله وأحياناً أكثر من تلك الأوقات التي يقضيها هناك، متنقلاً بين الشمال والجنوب ومتواصلاً مع الجميع هنا وهناك.
حين جاءه أبناء بحر الغزال، المنضوين تحت لواء الجيش الشعبي لتحرير السودان في الجبهة الشرقية، طالبين منه الإنضمام للحركة الشعبية باعتباره يمتلك مؤهلات (خاصة وأنه خريج الكلية الحربية السودانية وكان ضابطاً مميزاً في القوات المسلحة) ستجعله في قمة الهرم القيادي وبالتالي يستظلون بظله، فالأمر هناك قبيلة، لم يقل لهم شيئاً سوى أنه سيخدم قضية السودان من موقعه في التحالف بصورة أفضل، وأن المسألة ليست في العصبية أو القبلية. هكذا كان يفكر ويعتقد بأنه لن ينضم للحركة الشعبية لمجرد إنه من الجنوب (ومن أبناء الدينكا) وإلا كان إختارها منذ البداية، فالعاطفة لا مكان لها هنا، بل العقل هو ما يجب أن يحكم على خطواته.
لكن حين دخلت منزل شقيقه سعادة السفير مجاك فلمون مجوك لأداء واجب العزاء، وجلست إليه لأكثر من ساعتين مع مرافقي نتحدث عن مآثر عمنا جوزيف وعن سيرته العطرة، قال شقيقه ضمن ما قال عن أيامه الأخيرة عن فعل يعبر عن توقه الدائم لوحدة السودان وعن رغبته في أن يظل هذا الوطن موحداً ويضم كل تناقضاته لتتعايش جنباً إلى جنب يربطها ذلك الدم المتدفق من قلبه. قال مجاك عن أخيه جوزيف "إنه لا يفرق بين شمالي وجنوبي، كلهم سواء بالنسبة له أبناء لهذا الوطن، حتى إنه قبل أن يغادر إلى جوبا حيث إنتقلت روحه إلى بارئها كان قد سافر من الخرطوم إلى مدينة واو عندما اتصل به أحد أصدقائه من التجار الشماليين، وقد عاش في مدينة واو منذ سنوات طويلة، واستنجد به عندما احتل ضابط منفلت من الجيش الشعبي منزله ورفض الخروج منه بعد أن طرده. لم يتردد جوزيف من السفر إلى جوبا فوراً ليجلس إلى ذلك الضابط ويصل إلى حل للمشكلة ليعود صاحب المنزل إلى داره". لم يتصل ذلك التاجر بأحد سوى جوزيف وكان مدركاً وواثقاً في أنه سيجد حلاً لمشكلته بين يديه، ولا أعتقد بأنه لم تكن له صلاته بآخرين من قيادات المدينة ولكنه اختار جوزيف وهو بدون سلطات سوى سلطة الإرادة والعزيمة والرغبة في أن يرى هذا الوطن كما يشتهيه.
مات العم جوزيف فلمون مجوك، ذلك الإنسان.. قتلته الملاريا في مدينة جوبا التي غادر إليها من مدينة واو وهو يقوم بآخر عمل له في حياته من أجل الوحدة.. وحدة السودان التي ظل يعمل لها دون كلل أو ملل. عش بيننا خالداً باعمالك الجليلة. ولندعو له الذي وسعت رحمته كل شيء بأن يرحمه ويخفف عنه، مثلما رحم وخفف عن كثيرين في هذه الدنيا الفانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق