أمير بابكر عبد الله
في خاتمة رواية "المسيح يصلب من
جديد" للروائي اليوناني نيكوس كزانتزاكيس يرفع القسيس فوتيس يده ويعطي إشارة
الرحيل ويصيح: باسم يسوع المسيح تبدأ مسيرة الخروج من جديد، تشجعوا يا أطفالي. ومرة أخرى
يستأنفوا مسيرتهم التي لا تنتهي، وقد ولو وجوههم شطر المشرق.
هكذا كان علي أن أشحذ ذاكرتي لأستعيد تفاصيل تلك الرواية الباذخة التي قرأتها قبل أكثر من عقد من الزمان، وفي مثل هذه الظروف التي نعيشها الأن ونحن في حالة مستمرة من النزوح. هذا الوضع الذي حاولت تجاهله طوال 14 شهرا ويزيد منذ انطلاقة الحرب العبثية، وعملت على التاقلم معه وتطويعه لصالح أن تستمر الحياة ولهزيمة كل بوادر يأس أو اكتئاب يمكن أن تسيطر على المرء ويفرضها واقع الحرب.
عشت واقع الحرب منذ انطلاقتها، بل رأيت بأم عيني إرهاصات بداياتها قبل
أن تنطلق وهذا موضوع آخر. رأيت حجم الدمار الذي تسببت به وجثث الموتى وشاهدت جموع
النازحين من شرق النيل الهاربين من جحيمها على طريق العيلفون مدني في أيامها
الأولى ومن ثم تمددها زماناً ومكاناً.
كان علي أن أظل متماسكاً قادراً على رؤية الأشياء بوضوح، فأنا لست
مسؤولاً عن نفسي فقط بل عن أسرتي الصغيرة والممتدة، خاصة وأنني قد عشت تجربة الحرب
وإفرازاتها قبل ثلاثة عقود، وإن كانت تجربة لا تقارن بما يحدث الآن.
علمتني التجربة أن لا أستسلم للواقع وكذلك علمتني أن أستفيد من كل ما
هو سلبي لصالح ما هو إيجابي، بل وتطويعه لصالح الإيجابي. ربما كان هذا هو سر
السكينة والهدوء الذي تعاملت به حتى الآن مع الحرب، إلى جانب اليقين المطلق بالله
وأمره وأنه "لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
تابعت حالات الموت العبثي والانتهاكات البشعة التي صاحبت هذه الحرب
اللعينة، ورحلات النزوح المستمرة غرباً وشرقا، شمالاً وجنوبا، وقصص اللجوء التي لم
يجن منها السودانيون سوى الذل والمهانة بسبب نزوات ورغبات لنفوس قادة سياسيين
وعسكريين مريضة ومشوهة أطلقت غول الحرب ولا زالت تبث سمومها لتلهب نيرانها.
تابعتها بعين الصحفي والمجرب، وقررت الدعوة بكل قدراتي إلى وقفها منذ
اليوم الأول، وعدم الانجراف وراء حملات التضليل والتخوين والتخويف التي ملأت سماء
الميديا وافترشت أرض الواقع تنكيلاً وانتهاكاً لحقوق الطاعين لوقفها والساعين
لإشاعة روح السلام. وعملت على فضح الانتهاكات التي صاحبتها على قدر ما أستطيع
وتداعياتها على المواطنين.
لكن ما حدث في سنجة هو ما أحال ذاكرتي إلى كزانتزاكس وروايته الفخمة
"المسيح يصلب من جديد"، وهي الرواية التي تتوسط مكتبتي في المنزل. وبهذه
المناسبة تمت "شفشفة" منزلي بالكامل قبل أشهر، سرقت العربة اولاً ومن ثم
كل محتويات المنزل ولم يترك النهَّابون حتى أبواب المداخل والغرف، كل شيء كل شيء
كل شيء، وتركوا فقط هيكل المنزل ومكتبتي بكامل محتوياتها وأناقتها تملأ المكان رغم
فراغه. لا زالت تقف في مكانها شامخة تمد لسانها لحملات التجهيل والتضليل ساخرة،
وتثبت أن الوعي هو الذي سيصمد في خاتمة المطاف وأنه لن يهزم مهما فعل الجهلاء.
نعم؛ ما حدث في سنجة، هو ما جعلني انتقي تلك
الرواية من أرفف ذاكرة مكتبتي وانا اتابع رحلات النزوح منها ومن سنار عبر التواصل
هاتفياً مع من اعرفهم وفي منصات التواصل الاجتماعي وفي الأخبار، وبالتحديد قصة
لشاب نزح واسرته من الخرطوم إلى الجزيرة ومنها إلى سنار ومنها إلى الدندر، ومنها
إلى أين لا ادري، ولكن ربما القضارف أو غيرهان وكأنه القس فوتيس الذي يتقدم ركب
مسيرته الطويلة بحثاُ عن الأمن والطعام لهم.
هو ربما طالب في كلية الطب أو خريج كلية طب،
حسابه على منصة فيس بوك باسم ممدوح صديق. سجل في صفحته أنه كان نائماً يوم 29
يونيو وقت القيلولة واستيقظ على أصوات طيران، وتحدث عن الهلع والذعر الذي أصابهم
وهم في مدينة سنار، فاتفق مع أهله للخروج من المدينة. لم ينم ليلته زهو يتوقع دخول
الدعم السريع لمدينة سنار في أي لحظة.
يروي ممدوح "في يوم 30 يونيو استيقظت مبكراً، واستغل هو
وأسرته الحافلة التي تحركت في تمام التاسعة صباحاً إلى مدينة السوكي. كان جسر
الخزان مزدحماً مما اضطرعم للتوقف لخمس ساعات حتى عبوره إلى الناحية الأخرى. وصلت
الحافلة بعد المغرب السوكي، وواصلت مسيرتها إلى مدينة الدندر التي وصلتها في
التاسعة مساءً".
الدندر مدينة أشباح؛
لا كهرباء، لا مياه، لا أكل، كمية هائلة من المركبات والنازحين من سنجة وسنار
وعموم ولاية سنار. أصوات بكاء الأطفال من الجوع وضيق أخلاق من الجميع "شخصيا
اشتبكت مع أحدهم".
"كبري
الدندر مغلق، لا حركة، تكدس كمية هائلة من المركبات، من بداية مدينة الدندر
لنهايتها، أمام كبري عبارة عن خط سير واحد، لا خيار سوى قضاء الليلة في الدندر. اقترب
مخزون مياه الشرب من النفاذ، معي طفلين أحدهما مريض بالسكري، وجدي كبير في السن. فشلت
في الحصول على مياه شرب، ووجبة العشاء عبارة عن بسكويت يزيد حالة العطش".
حاول ممدوح أخذ قسط من
الراحة بالقب من موقع عسكري فانتهره أهد العساكر ومنعه من الاستلقاء بالقرب من
الموقع. ونام الجميع وهم يفترشون الأرض ويلتحفون سماء مظلمة كأرضها كأنها مرآة،
لأننا في نهاية الشهر الهجري. كانت أقصى طموح الناس أن يعبروا الكبري غداً، وأسوء
مخاوفهم كانت أن تمطر السماء عليهم، أو أن يضطروا للمبيت في مدينة الأشباح المكتظة
-للمفارقة- تلك يوماً آخر.
في الأول من يوليو استيقظ ممدوح والجميع
مبكراً "أو لم ينم أحد
بتاتاً، لا فرق" كما يقول. لا حركة، كما هي الحال، لا وجود لطعام أو مياه، أو
إضاءة سوى إشراقة شمس الصباح. أصوات بكاء، توفي لديهم طفل رضيع، لم يسأل ممدوح عن
سبب الوفاة. صلى ركعتين وقرأ أذكاره وكان أمله أن يتحرك خط السير، الذي لا يرى له
أفق.
العطش، لا شيء سوى
العطش، يطغى حتى على الجوع، الحل الوحيد هو ارتشاف مياه نهر الدندر، وهو ما فعله
ممدوح الذي لم يهتم لما حوله في هذه اللحظات، حتى إنه وقع من فرط استعجاله في حفرة
في النهر. وبعد ان روى عطشه ليكتشف الحقيقة التي هو وسطها، أرض مباني جرداء، جوع
وعطش، ولا بصيص أمل لانفراج الأزمة، بين نارين.
وجد الجميع مشغولون
بالحديث عن الأزمة التي هم وسطها وكيفية حلها. إتفقوا على الانتقال إلى الجهة
الأخرى من الجسر مشياً على الأقدام واستغلال حافلة أخرى من هناك.
بعد نصف ساعة من
مغادرة الوفد إلى الضفة الأخرى حدث ما لم يتوقعه أحد؛ بدأت الجموع في الجري دون
وجهة؛ قوات الدعم السريع "الدعامة" دخلوا الدندر.
يقول ممدوح "دي
تالت مرة والله يا ناس، لما كسروا باب بيتنا في الخرطوم وقبل ما يهددوني بالقتل
حصل نفس الموقف، وفي سنار برضو، إني أصحي أمي، كل مرة بكون خايف إني أخلعها، أنا
متأكد إن هي بقت كارهاني لأني ما بجيب غير الأخبار السيئة".
ويواصل "النزوح
الثالث، بلا وجهة، من المُلام لعنه الله؟ ما عارف والله، كل الفكرت فيه إن أنا
مجرد تفصيلة صغيرة جداً، تعقيدة من تعاقيد قصة كبيرة شديد أنا ما قادر أفهمها، أنا
مجرد ضرر جانبي، وكلنا، وبسأل نفسي، من باب إني متفاجئ كيف إني ضئيل... "هل
لنا من الأمر من شيء؟"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق