الصفحات

الجيش السوداني.. العقيدة العسكرية وغياب الدولة (1)


أمير بابكر عبد الله

الدولة والعقيدة الشاملة

بقدر قتامة الحرب الدائرة الآن، والتي قاربت العام والنصف منذ انطلاقتها، والنفق المظلم الذي أدخلت فيه البلاد والأوضاع الكارثية التي أفرزتها تداعياتها، إلا أنها أضاءت جوانب مهمة على المستوى السياسي والاجتماعي والعسكري ظلت دائماً موضوعة في الزاوية الميتة أو النقطة العمياء أثناء قيادة مسيرة الدولة الدولة الوطنية.

لعل إبرز القضايا التي أضاءتها هذه الحرب، بل وأشملها، هي الخلل الكبير في مفاهيم وتراتبية العقيدة الشاملة للدولة والعقيدة العسكرية لجيش الدولة. ومن أهم أسباب هذا الخلل هو الحرب التي لازمت البلاد منذ عشية الاستقلال وكذلك الحكم باسم المؤسسة العسكرية الذي استمر لأكثر من 60 عاماً منذ الاستقلال، ولم تخلُ سنوات ما عرف بـ"الديمقراطية الأولى والثانية والثالثة"، على قلة سنوات حكمها، من تأثيرات الحرب وتداعياتها على استمرارها ومسيرتها المتعثرة.

مثلت الحرب الدائرة الآن أبرز تجليات هذا الخلل، خاصة وأنها كشفت تماماً ظهر الدولة وعرَّت هشاشتها وكشفت ضعف بنيتها وبنيانها. واول ما كشفته هو فقدان دولتنا لعقيدة شاملة جامعة تقوم عليها مؤسساتها وتمثل المنصة الصلبة التي تنطلق منها لتحقيق أهدافها وتطلعات شعبها. وتمثل العقيدة الشاملة للدولة مجموعة القيم والتعاليم والمباديء العليا المتوارثة عبر التاريخ وتلك التي صاغتها التجارب وصقلتها المنعطفات التاريخية على المستويات السياسة والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، بما يجعلها محل اتفاق عام.

الحديث عن دولة سودانية يستوجب إرجاع البصر كرتين وأكثر للوقوف على هذا الضعف في بنيتها وبنيانها الذي يحول دون تشكل عقيدتها الشاملة، اولاً من أجل من اجل كشف أسباب التنازع الذي ظل سمتها الأصل بدلاً عن الاستقرار وثانياً استكشاف مواطن القوة التي يمكن البناء عليها. ويبدأ ذلك بطرح السؤال هل السودان دولة أم انه مجرد أكذوبة صدقناها وندفع الثمن الآن؟ وهنا لا نبحث عن إجابة قطعية، وإنما لنسترشد به الطريق إلى معرفة طبيعة دولتنا وأسس تشكُّلها واحتمالات استمرارها. والأهم، يقودنا إلى البحث عن صياغة عقد اجتماعي يضبط إيقاع نظامنا الاجتماعي الكلي الذي ننشده، ويكون مستوعباً لتعدد شعوب السودان وتنوعهم وقادراً على خلق آليات إدارته وفقاً لمبادئ التعايش السلمي.

وفقاً لتعريفات العلوم السياسية الحديثة فإن السودان دولة مكتملة الأركان، فالشعب الذي يعيش في إطار الدولة بحدودها الدولية المعروفة موجود، والأرض التي تٌمارس عليها السلطة موجودة والحكومة التي تدير شؤون الدولة، لا يهم هنا كيف تديرها، موجودة، وكذالك الاعتراف الدولي بسيادتها قائم، ولا يهم، هنا أيضاً، طبيعة هذا الاعتراف ولا قدرة الدولة على إدارة شؤونها الداخلية والخارجية دون تدخل خارجي. المهم هنا هل الدولة القائمة الآن تشكلت وتوحدت، بناءً على مجموعة قيم ومباديء سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية وعلمية، طوعاً، أم إن شعبها، او بالأحرى شعوبها، وجدت نفسها داخل هذه "الرقعة من الأرض" قسراً ولا يد للشعوب ولا رأي في هذا الأمر؟

دون الخوض في التاريخ البعيد ولا تفاصيل التاريخ الحديث، فإن الكثيرين يحيلون تشكُّل الدولة السودانية الحديثة بصيغتها الراهنة، أو بطبيعتها الحالية إلى بداية الاستعمار التركي في 1821. وهو قول لا يجافي الحقيقة، ولكنه يقف شاهداً على الطبيعة القسرية لتوحيد شعوب السودان بما يحقق أهداف المستعمر التوسعية وليس بما يحقق رغبات تلك الشعوب في الوحدة الطوعية. وما قبل هذا التاريخ سجلت مضابط التاريخ حجم الصراعات التي خاضتها الممالك الموجودة على هذه "الرقعة من الأرض"، والتي تشي بتباينات مقدَّرة ما يصعِّب الحديث عن قدرتها في صياغة عقيدة شاملة للدولة الموحدة مستقبلاً دون الوصول إلى صيغة تعايش بالتراضي بينها. وربما أجَّلت قدرات المستعمر القهرية وأبطلت مفعول تلك الصراعات بالقوة الجبرية، ولكن لما تُلغِها إذ لم يكن من اهتمامات المستعمر البحث في أسبابها ومعالجة جذورها، بقدرما كان اهتمامه مركز على تحقيق أهدافه التي دعته للتوسع جنوباً، وتحقيق هذه الأهداف كان يتطلب أعلى درجات الاستقرار الأمني والسيطرة.

إندلاع الثورة المهدية أحدث تحولاً مهماً في تاريخ بناء الدولة السودانية الحديثة، فالمهدية خاضت معاركها العسكرية إنطلاقاً من الأرض التي وضع المستعمر شعوب السودان "الراهن" داخل حدودها. وبالتالي كان مهماً جداً بالنسبة للمهدية حصد تأييد تلك الشعوب لمناصرتها لتشكل القوة العسكرية الضاربة لمواجهة المستعمر. وكان يمكن للمهدية أن تمثل انطلاقة بِناء الدولة السودانية الحديثة وتؤسس لعقيدتها الشاملة لو أنها كسبت تأييد الشعوب السودانية وتوحيدها بُناءً على عقد اجتماعي طوعي، ولكنها فشلت في ذلك لأسباب موضوعية تمثلت في عدم استمرارها بعودة الاستعمار وانهيار دولتها قبل أن تكمل عقدها الثاني، وكذلك لأسباب ذاتية لعدم قدرتها على كسب كل الشعوب السودانية لصفها وحاولاتها فرض ذلك بالقوة الجبرية أيضاً.

بطبيعة الحال، جاء المستعمر الانجليزي ليبسط سيطرته على ذات "الرقعة من الأرض" بالقوة، فيما ظلت الصراعات بين الشعوب "السودانية" في حالة سبات "قهري" مؤجل، بل وضاعف المستعمر هذه المرة من أسباب هذه الصراعات بمحاولاته دق إسفين أكثر عمقاً بين تلك الشعوب سعياً لتحقيق استراتيجياته وأهدافه على المستويين القريب والبعيد. وتوسعت رقعة الاستعمار الانجليزي ليرسم حدود السودان الدولية الحالية، وتجد تلك الشعوب وقد اعترف بها العالم في أعلى منظماته الدولية كدولة واحدة ذات سيادة وعلم يمثلها، دون أن يكون هناك مشروع لعقد اجتماعي توحدت حوله وبالتالي دولة بلا عقيدة شاملة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق