الصفحات

الجيش السوداني.. العقيدة العسكرية وغياب الدولة (2)

أمير بابكر عبد الله

دخول "دولة" السودان إلى مرحلة الاستقلال كأمر واقع، بلا عقيدة شاملة، ترتبت عليه تداعيات كانت أسطع تجلياتها في التمرد الأول في 1955، عشية إعلان الاستقلال، وخُتمت بانفصال الجنوب وتأسيس دولة مستقلة. وعند استخدام مصطلح "عقيدة" يقفز إلى الذهن مباشرة الإحالة إلى ما هو مقدس وديني أو أيديولوجي، وهو ما يحدث الخلط دائماً وأربك المشهد السوداني على كافة مستوياته السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية والمعرفية، أي مجموع ما يمثل العقيدة الشاملة للدولة.

تزامن دخول الدولة إلى مرحلة الاستقلال، بلا عقيدة شاملة تسترشد بها، مع التحول الجوهري في القوة العسكرية الضاربة من قوة دفاع السودان إلى القوات المسلحة السودانية. ومما لا شك فيه أن العقيدة العسكرية للقوات المسلحة لأي دولة تستمد مبادئها وقيمها من عقيدة الدولة، والعقيدة هنا ليست العقيدة الدينية أو الأيديولوجية كما يتبادر إلى الذهن، وإنما هو التعاقد المتارضى عليه من قبل كافة المواطنين، الشعوب، الذين أجبروا أو ارتضوا العيش في ظل دولة واحدة. ويأتي في قمة ذلك التعاقد الإقرار بكامل المواطنة للكافة حقوقاً وواجبات، وما يترتب عليها من مسؤوليات متبادلة بين الدولة وأجهزتها وبين الدولة والمواطن وبين أجهزة الدولة والمواطن.

تتمثل العقيدة الشاملة للدولة في المبادئ الدستورية المتوافق عليها، وهي المبادئ التي يراعى فيها تمثيلها لكل اطياف الشعب ومصالحهم دون استثناء أو حصانة استثنائية. يدعم ذلك القانون الدستوري المفسر لتلك المبادئ ويعمل على تطبيقها وتنفيذ احكامها. وحيث يمثل الدستور أعلى سلطة في الدولة، مستلهما روح ونصوص تلك المبادئ، فإن غيابه يمثل غياب الدولة وبالتالي عقيدتها وأساس ضبطها وتعبيرها عن مواطنيها.

وطالما أن فكرة هذا المقال قائمة على أن السودانيين الموجودون في "هذه الرقعة من الأرض" لم يكن لهم الخيار في البقاء موحدين، وعليهم البحث في المشاركات التي جمعتهم في الدولة وكيفية التعايش السلمي داخل حدودها، طالما كان ذلك يحقق مصالحهم مجتمعين. تأتي الخطوة الأولى لتحقيق ذلك بالتوافق على المبادئ الدستورية والقانون الدستوري، الذي من الواضح أنه ظل غائباً منذ الاستقلال، وهو ما أفرز التداعيات التي لا زالت تلقي بظلالها على مسيرة السلام والوحدة. من مظاهر هذا الغياب الحديث المستمر عن أهمية عقد المؤتمر الدستوري، والذي يؤكد على هذا الغياب المُخِل، ومن ثم الاتفاق والتراضي على المبادئ الدستورية والقانون الدستوري الحاكم وطرح ذلك في استفتاء عام. وليس بغائب عن الأذهان أن مسيرة الدولة السودانية الوطنية ظلت محكومة بدساتير مؤقتة لتسيير دفة الحكم وإكسابه المشروعية اللازمة، وليس لبناء وضبط الدولة ومؤسساتها بصورة دائمة. ولأن هذا الوضع يخدم مصالح فئات كثيرة أو قليلة، وليس الكل، ظل الطريق أمام إقرار مبادئ دائمة للدستور عسيراً ودائماً ما يجد من يقطعه.

في مثل هذا الوضع "المؤقت" للدولة يأتي الحديث عن العقيدة العسكرية دون قراءة للمشهد الكلي ناقصاً، ويطرح ذات السؤال، هل العقيدة العسكرية للقوات المسلحة السودانية متوافق عليها ومستمدة من العقيدة الشاملة للدولة؟ وسؤال فرعي، هل القوات المسلحة مطالبة بصياغة العقيدة الشاملة للدولة في ظل غيابها؟

السؤال والآخر الفرعي لن تجيب عليه فترة حكم تجاوزت الستين عاماً من عمر الاستقلال بإسم المؤسسة العسكرية والبيان الأول بإسم القوات المسلحة، ولكن ستضعنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة أننا لا زلنا نسير في خطى الدولة التي تُجبر شعوبها لتتعايش بالقهر لا بالتراضي. وليس ذلك بسبب أن القوات المسلحة ومؤسستها من مسؤولياتها ومهامها صياغة العقيدة الشاملة للدولة "منفردة"، بل لأنها استخدمت لقطع الطريق أمام بناء دولة الدستور والقانون. واستُخدٍمت بفعل فاعل في كل مرة يعلن البيان الأول بإسمها لتعاد صياغة الدستور "المؤقت" بما يتناسب ومصالح الفاعل.

إذا كان من المتعارف عليه والطبيعي أن تستمد القوات المسلحة عقيدتها من العقيدة الشاملة للدولة، فإن عاملين أساسيين لعبا دوراً مهماً في طبيعة تلك العقيدة وتقلباتها، الأول هو، وكما أشرت، غياب عقيدة الدولة الشاملة نفسها والثاني هو تبني الدولة لعقيدة مؤقتة محكومة برؤى الحاكم الذي يقفز أو يجيء إلى السلطة وهو لا يميز بين حدود الدولة والسلطة، أو بالأحرى يتعمد إذابة وإزالة الحدود بينهما خدمة لمصالح جزئية وليست كلية.

وهنا يجب التمييز بين أمرين، وهما العقيدة العسكرية والواجب المهني للقوات المسلحة، فالعقيدة العسكرية هي المذهب العسكري الذي تتبناه الدولة لبناء جيشها وتأسيسه ووضع الاستراتيجية العامة له. ويعرف المختصون العقيدة العسكرية بأنها "مجموعة من القيم والمبادئ الفكرية التي تهدف إلى إرساء نظريات العلم العسكري وعلوم فن الحرب، لتحدد بناء واستخدامات القوات المسلحة في زمن السلم والحرب بما يحقق الأهداف والمصالح الوطنية". وهي مشروع متكامل يشمل أعلى مستويات الدولة وإلى أصغر جندي من أجل الأمن وحماية المصالح العليا. أما الواجب المهني العسكري فهو محكوم بالعقيدة العسكرية للدولة ويقوم على ركائز العقيدة القتالية المرتبطة بالتخطيط والتدريب والتسليح والتكتيك العسكري والتعبئة المعنوية أثناء اداء المهام العسكرية. وبتعدد الأسلحة العاملة ضمن القوات المسلحة تتباين مستويات الواجب المهني حسب نوع السلاح بما يخدم في النهاية الهدف العام للعقيدة العسكرية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق