الصفحات

الجيش السوداني.. العقيدة العسكرية وغياب الدولة (3)

أمير بابكر عبد الله

تحت ظل إي عقيدة عسكرية مارست القوات المسلحة السودانية مهامها بعد إسقاط نظام حكم الإنقاذ؟ وبأية عقيدة تخوض حربها ضد قوات الدعم السريع؟

وجدت العقيدة العسكرية للقوات المسلحة السودانية، منذ الاستقلال، نفسها متنازعة في ظل الفوضى الضاربة بأطنابها على مستوى الدولة وغياب عقيدة شاملة لها. دخلت القوات المسلحة مرحلة الاستقلال بإرث تأسيسها الاستعماري وتاريخ عملياتها العسكرية المرتبطة بالعقيدة الشاملة لدولة المستعمر القائمة على التوسع والهيمنة، وحاربت جنباً إلى جنب مع جيش المستعمر في جبهات القتال المختلفة، ضمن جيوش الحلفاء والتي كانت تقود حرباً شرسة ضد جيوش دول المحور أثناء الحرب العالمية الثانية.

دخلت هذه المرحلة دون أن تجد مشروعاً سياسياً وطنياً جامعاً متراضٍ عليه، ينقلها إلى مرحلة الدولة الوطنية ويحدد مسارات وجهتها ومطلوباتها في مرحلة ما بعد الاستعمار. فالقيادة السياسية مشغولة بالصراعات الثانوية أكثر من اهتمامها بالاستعداد لوضع أسس بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها الموروثة، وتمارس سلطاتها في إدارة الدولة دون مشروع متكامل، وإنما وفقاً لموازين القوى بين أطرافها ومحاولات ترجيحها بحسابات التنافس الآني الذي يتجاهل المستقبل. وكانت إدارة مؤسسات الدولة قائمة على الاجتهاد وترسُّم خطى الإدارة الاستعمارية من قِبَل قيادات الخدمة المدنية، الذين وجدوا أنفسهم على رأسها بعد تنفيذ سياسات السودنة. وبجرد حساب بسيط للخدمة المدنية في السودان منذ الاستقلال وحتى الآن، نجد التراجع الهائل في أدائها كلما ابتعدت المسافة الزمنية من تاريخ الاستقلال. وهناك نماذج ساطعة لذلك تتمثل في المشروعات الكبيرة التي ورثتها الدولة الوطنية، مثل مشروع الجزيرة وهيئة السكة الحديد ومؤسسات التعليم، التي أصبحت هويتها متقلبة وخاضعة للرؤى السياسية للنظم الحاكمة أكثر منها لرؤية قومية وطنية مستدامة للدولة.

لذلك كان من الطبيعي أن تتلمس المؤسسة العسكرية، وهي مؤسسة الدولة الأكثر تنظيماً وانضباطاً وأوضح هيكلة، طريقها لصياغة عقيدة عسكرية تستلهم تلك الفوضى والاضطراب. وبالتالي انعكس ذلك في تحديد واجباتها تجاه الدولة، وظلت متنازعة بين الولاء للدولة والولاء للسلطة الحاكمة. نموذجاً؛ في مرحلة من المراحل كانت تتبنى دعم قوى التحرر الوطني لأنها خارجة من مرحلة الاستعمار بقوتها وعنفوانها، كما تبنت العقيدة العسكرية الشرقية في بدايات حكم الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، عندما كانت الرياح شرقية في أول عهد النظام المايوي، ثم دارت 180 درجة لتتحول العقيدة العسكرية مع تحول عقيدة الدولة غرباً، ثم تتحول في مرحلة ما إلى عقيدة إسلامية. بالتأكيد أحدث هذا التقلُّب اضطراباً مؤثراً في أداء القوات المسلحة، فالانتقال من عقيدة شرقية بكامل تفاصيلها الاستراتيجية والتكتيكية والتدريبية واللوجستية إلى عقيدة غربية مختلفة تماماً من شأنه إحداث أثر كبير على مستوى الأداء، ثم الانتقال إلى عقيدة "إسلامية" قائمة على تجييش الشعب، مما أفقد القوات المسلحة مركزيتها وبالتالي أهم أسس قوامها المتمثلة في التراتبية والانضباط الذي صار رهناً للتراتبية العقائدية بدلاً عن العسكرية. ومارست المؤسسة العسكرية، وفقاً لهذا الاضطراب الذي صاحب أداء الدولة، مهامها في الولاء وحماية النظام الحاكم سواء كان وصل إلى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع أو صندوق الذخيرة، فليس هناك دستور تحميه ولا مشروع وطني يلزمها بالخضوع إليه.

بسقوط نظام الإنقاذ إنتهى العمل بدستور 2005 الذي تمت صياغته نتيجة اتفاقية السلام الشامل وأجريت عليها تعديلات ليتواءم مع واقع خيار الجنوبيين في الانفصال عن الشمال وتأسيس دولتهم المستقلة. وهو، أي دستور 2005، أيضاً من الدساتير المؤقتة التي فرضها واقع الحال وينطبق عليه ما توصف به الدساتير المؤقتة التي شرعنت ممارسة السلطة لأنظمة الحكم التي سبقتها، بما فيها نظام الانقاذ قبل 2005.

جاء إلى رأس السلطة المجلس العسكري الانتقالي لدولة بلا دستور، وأصدر الفريق عبد الفتاح البرهان "مرسوماً دستورياً" بتشكيل المجلس في 13 أبريل 2019، وبموجب ذلك تكون المجلس إضافة إلى الرئيس ونائبه، من سبعة ضباط بالجيش، ومدير الشرطة، ونائب رئيس جهاز الأمن والمخابرات، وقائد قوات الدعم السريع الذي عين نائبا لرئيس المجلس، وأدوا "اليمين الدستورية" أمام رئيس المجلس. وتوالت المراسيم الدستورية، وهي مراسيم ذات طابع إداري، إلى حين التوقيع على "الوثيقة الدستورية" التي ستحكم البلاد لفترة انتقالية لمدة أربع سنوات. وهي وثيقة من أهم ميزاتها الخِلاف عليها من قبل قطاعات واسعة من الشعب، وذلك يعني استمرار وتصاعد الصراعات التي ظلت تتأرجح صعوداً وهبوطاً بسبب قمع الأنظمة السابقة لهذه المرحلة.

عادة ما تعود الأنظمة التي تصل إلى السلطة إلى الدساتير المؤقتة التي سبق صياغتها، ابتداء من الدستور المؤقت لسنة 1956، وإلى دستور 2005 المعدل، قبل الشروع قي صياغة دستورها المفصل عليها، وهو ما لم يحدث بعد سقوط نظام الانقاذ. وهذا يعني أن الدولة أصبحت بلا دستور يحكم خطواتها لفترة زمينة لا دائمة ولا مؤقتة إلى حين إجازة "الوثقية الدستورية". ودخلت البلاد مرحلة "الوثيقة الدستورية" التي أجيزت على مضض من قبل بعض أطرافها، وهو "المكون العسكري" الذي رضخ للضغوط الإقليمية والدولية في نهاية الأمر. وكان من السهل على أي طرف من الأطراف خرق أي بند من بنودها، بالاتفاق أو بالقوة، دون أن يطرف له رمش. فهي أجيزت بهذا الشكل من أجل خرقها، فلا هي مُجْمعٌ عليها على مستوى الشعب والقوى السياسية المختلفة ولا بين أطرافها، إذ فرضتها مرحلة سياسية "مؤقتة" وبضغوط تجاوزت التراضي حولها بين أطرافها.

في ظل الاضطراب الكبير الذي أحدثته ثورة ديسمبر المجيدة وهزَّ أركان الدولة بكافة مؤسساتها وفي ظل غياب الدولة، وجدت القوات المسلحة نفسها تخوض معارك المحافظة على امتيازاتها بلا عقيدة محددة. ومتنازعة بين المضي قدماً في انحيازها للثورة ومطالبها التي على رأسها "العودة إلى الثكنات" وبالتالي الذهاب إلى إعادة تأسيس وبناء الدولة وفقاً لمشروع وطني يحقق تطلعات الجميع، وبين الضغوط التي تقودها أطراف داخلها للمحافظة على الإرث القديم والامتيازات. خاضت القوات المسلحة معارك عسكرية محدودة في منطقة الفشقة لاسترداد أراضي السودان التي ظلت تحت قبضة الأثيوبيين، بينما غضت الطرف عن مثلث حلايب وشلاتين. وفي الحالتين لم يكن القرار للقوات المسلحة وإنما التنفيذ، فالقرار هو قرار سياسي وليس عسكري وخاضع للرؤية السياسية للدولة. وفي ظل ذلك التنازع، ظلت القوات المسلحة، باعتبارها رأس الرمح في الشأن الأمني الداخلي، في مواجهة مستمرة مع الحراك الثوري المطالب بتحقيق أهداف الثورة ومنحازة للرؤية التي تحاول قطع الطريق أمامها، وهو أيضاً يدخل ضمن القرار السياسي وليس العسكري المبني على عقيدة الدولة "وهي حقيقة بلا عقيدة متفق عليها أو غير متنفق عليها في هذه المرحلة". 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق