الصفحات

الجيش السوداني.. العقيدة العسكرية وغياب الدولة - الأخيرة

أمير بابكر عبد الله

كان من الطبيعي أن ينجح إنقلاب الفريق عبد الفتاح البرهان على الوثيقة الدستورية ويزيح الطرف الآخر من المشهد السياسي بقوة السلاح، ويلغي بنود "الوثيقة الدستورية" التي لا تتلاءم مع تطلعاته ويبقي على تلك التي لا تؤثر على المشهد العام ولا تقطع شعرة معاوية مع الأطراف التي ضغطت من أجل إجازتها إقليمياً ودولياً. من الطبيعي أن ينجح لأن الدولة مهيأة لذلك بغيابها المتعمد، مثلما نجحت كل الانقلابات التي أطاحت بالأنظمة الديمقراطية. وهنا ملاحظة ظللت أعيدها في كل مناسبة، أن الانقلابات باسم المؤسسة العسكرية تنجح دائماً في إسقاط الأنظمة الديمقراطية بينما تفشل الانقلاب العسكرية في إسقاط الأنظمة الحاكمة باسم المؤسسة العسكرية والتي دائماً ما تسقطها وتزيحها عن السلطة الثورات الجماهيرية الشعبيةن وهذه تحتاج لوقفة ودراسة.

لم يلغِ البرهان "الوثيقة الدستورية" وإنما عطل العمل بالمواد المتعلقة بشرعنة وجود الطرف الثاني في السلطة، وهو قوى الحرية والتغيير، وكلها مواد متعلقة بالسلطة وليس بالدولة من تشكيل المجلس السيادي وما يتصل به وتشكيل مجلس الوزراء وما يتصل به والمواد المتعلقة بالمجلس التشريع الذي لم ير النور أصلاً، وأخيرة المادة المتعلقة بمرجعية "الوثيقة الدستورية" نفسها. تم كل ذلك والبرهان يرتدي كاملة البزة العسكرية الرسمية متخذاً قراراً سياسياً في جوهره ومظهره، ولكن هذه المرة لم يأت الانقلاب، الذي أسماه البرهان إصلاحاً، على دستور مؤقت بل على وثيقة دستورية مؤقتة وعلى نظام حكم انتقالي وليس على نظام حكم منتخب، وهو أول انقلاب من نوعه في السودان أن يقوم به رئيس مجلس السيادة على جهازه التنفيذي.

كشفت تلك الخطوة حقيقة غياب عقيدة الدولة الشاملة، وهو الأمر الذي ترتب عليه فشل المضي في خطوات تشكيل الأجهزة التنفيذية والتشريعية اللازمة وقاد إلى إضطراب المشهد العام السياسي والاقتصادي والأمني. وأدخل الدولة ومؤسساتها، على عِلّاتها، في حالة من التخبط بلا دليل تسترشد به ويحكم العلاقات بينها ويضبطها وبطبيعة الحال كان الشعب خارج تلك المعادلة ولا يعتد بمصالحه. أما المؤسسة الرئيسية في كل المشهد، وهي المؤسسة العسكرية فكانت الأكثر تضرراً من غياب الدولة وعقيدتها.

في تلك الظروف الدقيقة انطلقت الحرب، وهي التي وصفها قائدا الطرفين بالعبثية. انطلقت ووجدت القوات المسلحة نفسها محاصرة من كل الأطراف بقوات الدعم السريع بعد أن امتلكت تشكيلاً مقاتلاً يكاد يوازي تشكيلات الجيش إلا من افتقاره لبعض الأسلحة المساندة. وهنا لن نتناول قوات الدعم السريع، فالكل يعلم تاريخها وأسباب وطريقة تشكيلها وتمددها ومن فعل ماذا، ولكن ما يجب تأكيده أن نشأتها ووجودها واستمرارها وتمددها استقوائها هو نتيجة طبيعية لغياب الدولة وعقيدتها الشاملة، وواحدة من أسباب إضعاف القوات المسلحة.

الأخطر من ذلك لم تجد القوات المسلحة دولة تحمي ظهرها سياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً، فقد انهارت كل المؤسسات مع انطلاق أول طلقة في 15 أبريل 2023. ووجدت نفسها بلا عقيدة شاملة تستمد منها رؤاها ولا عقيدة عسكرية راسخة تستند عليها، وصارت تتجاذبها الأطراف التي تحاول الاستقواء بها لبلوغ أهداف سياسية وتدفع بها إلى أتون حرب دون استعداد كافٍ. وكان عليها، بطبيعتها، أن تقاتل من كانت تعتبره حليفاً في خندقها القتالي حتى عشية انطلاق الحرب طالما صدرت الأوامر بالقتال.

في البلدان ذات المؤسسات الراسخة، وفي حالات الطوارئ أو حالة نشوب حرب تعرف تلك المؤسسات كيف تدير شؤونها، وكيف تدعم جيشها. وهذا الواقع رغم مرارته إلا أنه يضع الجميع أمام المسؤولية في المستقبل. فالدولة ومؤسساتها لا تتأثر بتبادل أو تغيير السلطة، فمن طبيعتها الاستدامة والقومية وخدمتها للجميع، بينما السلطة خاضعة للتداول، وفي حالة السودان الماضية والراهنة خاضعة للانقلاب. ولن يكفي هنا الحديث عن من كان السبب في هذا التدهور المريع للدولة بل يجب تحميل المسؤولية للجميع، إذا كان علينا الانطلاق إلى رحاب دولة قائمة على التراضي والتوافق، وهي مسؤولية متوارثة لا فكاك منها إلا بإنجاز المشروع الوطني الجامع.

الحديث عن الجيش والاختراقات السياسية التي حدثت له طوال مسيرته تقف عليها الشواهد الكثيرة، وهي ما انحرف به عن مهامه لانشغاله بالصراعات السياسية والنزاعات الناتجة عن تداعياتها. والحديث عن الجيش وأهمية وحدته وإصلاحه وإعادة هيكلته وتقويته ودعمه، مع أهميته، لا يفتقر إلى الدقة وحسب بل إلى عدم الأمانة و"الاستهبال السياسي". إن عدم إنجاز مشروع وطني جامع متفق عليه بالتراضي بين جميع شعوب السودان ركائزه التنمية المتوازنة والتعليم، وصياغة مبادئ دستورية وفقاً لهذا المشروع وصناعة دستور يطرح على استفتاء عام ويجاز بواسطة برلمان منتخب من الشعب يضع ثوابت العقيدة الشاملة للدولة، يجعل الحديث عن جيش موحد وإصلاحه وإعادة هيكلته مجرد طق حنك. فالمؤسسة العسكرية جزء من مجموع مؤسسات الدولة، ولا يمكن الحديث عن إصلاحها أو إصلاح أي من مؤسسات الدولة الأخرى بدون تصور عام لماهية الدولة التي نريد أن نتعايش تحت سمائها، ولن يجدي الحديث عن الإصلاح للمؤسسات بمنهج التجزئة، كصاحب سيارة يعيد طلاءها في ما لا تزال الأعطال تعصف بالموتور وإطارتها لا تصلح للخدمة.

ويبقى الحديث عن عقيدة عسكرية للقوات المسلحة في ظل غياب العقيدة الشاملة للدولة أعرجاً، والسودان في أشد الحاجة لعقيدة عسكرية تعبر عن احتياجات الدولة الأمنية والدفاعية، خاصة لموقعه الجغرافي الذي يتوسط القارة الأفريقية ولحدوده التي تجاور 7 دول ولما يمكن أن يكون تأثيره الجيوسياسي إذا ما وضعت الدولة خطواتها الراسخة في طريق الاستقرار الداخلي، ومحمية بجيش قوي موحد. نحتاج لعقيدة عسكرية لقوات المسلحة موحدة بحيث لا تشغلها الشواغل الداخلية ومحاربة التمرد، ولا تحتاج لمليشيات تقوم مقامها في مهامها، بل تستمد قوتها وقدراتها من قدرات الدولة ومقدَّراتها وتستمد تماسكها وهيبتها من تماسك الجبهة الداخلية المساندة لها.

سنظل تتجاذبنا تلك الصراعات وتعصف بدولتنا، وربما تقودها إلى التمزق ما لم نعقد العزم على الجلوس أرضاً ونتواضع على الوصول إلى رؤى مشتركة. فعلى الرغم من وجودنا القسري المشترك في هذه "الرقعة من الأرض" إلا أن ما تشكل من خلال سنوات طويلة من وشائج وتداخل بين شعوبنا، رغم الصراعات، كفيل بأن يخلق لنا قاعدة تعايش سلمي مشتركة ننطلق منها إلى رحاب الدولة الواحدة التي ستأتي، ويجب أن تأتي، برضا الجميع وتكون مسؤليتها خدمة الجميع على قدم المساواة. حينها سيكون الحديث عن عقيدة عسكرية مستمدة من حصيلة هذا التوافق وقوات عسكرية موحدة واقعاً ملموساً. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق