في الفيزياء تتمظهر المادة في ثلاث حالات، الصلابة والسيولة والغازية، ولكل حالة قوانينها وبيئتها. ويمكن لعنصر ما أن يتحول من الصلابة إلى السيولة ثم يتبخر غازاً، بإخضاعه لمؤثرات خارجية، كما يحدث في حالة الماء مثلاً. وهي حالات تندرج تحت تصنيف العلوم التطبيقية بفروعها المختلفة، التي تعتبر قوانينها وقواعد تفاعلاتها أكثر استقراراً ونادراً ما يحدث اختلاف على المستوى النظري يهد ما سبقه، بل في العادة ما يتم البناء على ما تم الوصول إليه
عبر التجارب المستمرة والانجازات التي تحققت.أما العلوم الاجتماعية، لها قوانينها المختلفة القائمة على أهمية الاختلاف النظري بين مدارسها. وهي خاضعة للتغيرات الاجتماعية التي تحدث من فترة لأخرى قد تطول لعدة قرون وقد تكون قصيرة المدة تحدثها ثورات أو عوامل اقتصادية وسياسية، وكذلك خاضعة بذات القدر لتطور العلوم التطبيقية ومدى تأثيرها على تغيير نمط حياة الناس. لذلك تظل العلوم الاجتماعية، في تطورها وتفاعلها المستمر مع العوامل الداخلية والخارجية، إبنة وفية للبيئة التي حولها تتأثر بها ومن ثم تؤثر فيها.
ما جعلني اختار هذا العنوان لمناقشة قضية ملحة مرتبطة بالإعلام، فرضتها الظروف الحالية، حوار قصير أجرته كاترين بورتوفان عام 2008، ونُشر في مجلة "تيليراما" الفرنسية مع الفيلسوف وعالم الاجتماع، زيغمونت باومان وترجمه إسكندر حبش، والذي يصف فيه ما يعرف بعصر الحداثة الثانية بأنها "الحداثة السائلة".
ولأن الإعلام، كعلم ومهنة وممارسة يندرج تحت تصنيف العلوم الاجتماعية، دون شك، يظل خاضعاً لسطوة المؤثرات والمتغيرات، بل هو الأكثر والأسرع تأثراً. وذلك لطبيعة دوره المزدوج والمتراوح بين الناقل أو المرآة التي تنعكس داخلها مجريات الأحداث وبين تطويعه كصانع للأحداث نفسها. هذه الدور المزدوج الذي ظل يلعبه الإعلام، على مر العصور، جعله دائماً متراوح بين حالتي الصلابة والسيولة. فهو إلى جانب دوره في عصر الحداثة الذي يؤديه في الاتصال ومسؤولية التنوير المناط به نقلها عبر الوسائط التقليدية المعروفة، ويمكن تسميتها بحالة الإعلام الصلبة، عليه أن يلعب دور آخر وهو التبشير بالحق والباطل، يعتمد على الزاوية التي ينطلق منها مالك أو المسيطر على وسيلة الإعلام. ويمكن تسميتها بحالة التردد بين الصلابة والسيولة غض النظر عن الرسائل التي تبثها الوسائط الإعلامية، وهذا التردد بين الحالتين يعتمد بشكل أساسي على مُرسِل الرسالة الإعلامية وطبيعة الرسالة وتوقيتها والجمهور المستهدف.
تطور العلوم التقنية والصناعات التكنولوجية وتسارع وتيرة هذا التطور في العصر ما بعد الحديث، أدى إلى تغير علاقات الانتاج ودورتها نتيجة لهذا التطور في وسائله، أدى إلى تغير نمط الحياة بسرعة يصعب التحكم فيها، وإلى تعزيز سلطة الفرد على حساب المجتمع.
كان لذلك انعكاسه على الإعلام ووسائله، بل يمكن القول ان تطور الوسائل ودخول الإعلام عصر منصات وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها هو الذي أصبح العامل الرئيسي في الإعلام، أي انقلبت التراتبية رأساً على عقب، بعد أن كان هناك مُرْسِل ورسالة "محتوى" تبحث عن وسيلة لنقلها وبثها إلى المستهدفين، أصبح الأمر معكوساً بحيث صارت هناك وسائل إعلام اجتماعي صنعتها الآلة الرأسمالية ومن ثم جاء المُرْسِل ليعد رسالته حسب متطلبات سوق العمل الذي تعمل في نطاقه الوسيلة.
بمعنى آخر صارت الوسيلة هي الفاعل الرئيسي لتنتقل من خانة مجرد ناقل لرسالة إعلامية سياسية أو ثقافية واجتماعية أو اقتصادية إلى التأثير على تشكيل وصياغة الرسالة، وتتحكم في عقلية منتج الرسالة وتضع له ضوابط الرسالة وضوابط نشرها وفقاً لقانون السوق الذي يستهدف المستهلك. بل أصبح المستهلك هو نفسه المنتج للرسالة الإعلامية التي يرغب في أن تصله هو، وبالتالي يصنع المحتوى الذي يحقق هذه الغاية.
يمكن إدراك ذلك بسهولة من خلال تتبع مسار تطور وسائل الإعلام الرقمي منذ انطلاقة الانترنت والمواقع الألكنرونية إلى عصر الذكاء الاصطناعي، والخروج بالإعلام من كنف المؤسسة التي تفرض على منتسبيها مواثيق عمل وشرف ومضبوطة بسياسات تحرير تخدم مصالح مالكي المؤسسة سواء افراد أو دولة أو شركات او جماعات سياسية غض النظر عن طبيعة وغاية الرسالة الإعلامية، إلى تعزيز عصر الفرد الذي تتحكم فيه مشاعره وتقوده الوسيلة، أو منصات سائلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق